بدأت أفواج حجّاج بيت الله الحرام العودة الى ديارهم، بعد أن أمضوا أيّاما سابحين ببحيرة الروحانيات في البقعة الشريفة التي باركها الله ، وبما أنّ لكلّ عودة للديار حلاوة، مدافة بحرارة الشوق، ودموع الفرح، لكن تظلّ لعودة حجّاج بيت الله لديارهم خصوصيّة ، كونهم لبسوا البياض، وتوضّأوا بنورالمطلق، وصلّوا بالمسجد الحرام، والمسجد النبويّ، ووقفوا بعرفة ،ورفعوا أياديهم بالدعاء لربّ العزّة ، وشربوا من ماء زمزم ، وطافوا مع الطائفين، وصافحوا مقام "إبراهيم"، وحدّقوا في الحجر الأسود ،والمحظوظ منهم من فاز بقبلة، وسعوا على طريق "هاجر" بين الصفا والمروة ، وقبّلوا تراب الأبديّة، وصلّوا الفجر بـ"مزدلفة"، ورموا الشيطان بما حملوا من جمرات بِكر، وافترشوا حصى "منى"، ومإلى ذلك من أسماء أماكن لها وقع في الروح قبل السمع ، وأذكر إننا في العراق كان الذي يتوجه الى الديار المقدسة يستعد لمصير مجهول، وكأنّه مقبل على المشاركة بمعركة حامية الوطيس، فكان وداعه لأهله ،وأصحابه ،ومعارفه، يشبه الوداع الأخير، وغالبا ما يداف بدموع ، ودعوات بسلامة العودة، ويذيّل بطلب براءة الذمّة، لذا فالعودة تعني ولادة جديدة، وعمرا جديدا، فكان الجميع يخرج لاستقبال الحجّاج العائدين الذين يصلون منهكين من التعب ، بالأهازيج ،مردّدين على مسامعهم أهزوجة شعبية ترفع حماسهم تقول: "أهلا بالجاي وجايب ريحة مكة وياه" كان ذلك في مطلع السبعينيات اذ معظم السفر يتمّ عبر الطريق البري الطويل بواسطة حافلات لم تكن بالخدمات التي تقدّمها الحافلات الحديثة، ولم تكن الطرق سالكة مثلما هي اليوم ، وكنّا نترقّب عقب نشرات الأخبار في تلفزيون"بغداد" "رسالة الحجّ المصوّرة " إذ يبعث الحجّاج سلامهم ، لذويهم مبشّرينهم بسلامة وصولهم للديار المقدّسة ، لذا كان الرجال يستقبلونهم بـ"الهوسات"، ونحر الذبائح تحت أقدامهم، ورمي الرصاص بالهواء فرحا ،وابتهاجا، كما يجري في الأعراس، بينما النساء يستقبلنهم بالزغاريد، ونثر الحلوى على رؤوسهم، وكانوا يلازمون الفراش محافظين على ارتداء ملابس بيض تميّزهم عن سواهم، وربما تلك اشارة للنقاء، والصفاء والولادة الجديدة، وكانوا يوزعون الهدايا على الضيوف، ومهما كانت الهديّة بسيطة كسبحة، أو سجادة صلاة، أو رشفة من ماء زمزم ، أو غطاء رأس ، إلّا أنّها كانت تشكّل قيمة كبيرة اذ يقبّلها المهدى إليه، ويضعها على رأسه ، إشارة لقبولها، والإعتزاز بها، كونها تحمل دلالة كبيرة ، فهي مشتراة من محلّ ،أو بائع جوّال يفرش بضائعه على رصيف في الأرض المقدسة، ومادام المكان مقدسا، فكلّ مافيه مقدس، وكأيّ رحّالة عتيد يبدأ الحاج المستجد بالحديث لضيوفه عن تفاصيل رحلته، وكأنّه قادم من رحلة لكوكب آخر، والكل يصغي بإهتمام، وحرص حتى لمن سمع التفاصيل عدّة مرات، من أصحاب البيت ، كما يحدث دائما، حالفا باغلظ الإيمان إنّه لم ينس محدثيه من الدعاء أمام بيته الحرام، وهو يرى دموع الأشواق للمكان الشريف تتساقط من عيونهم، ممنّين النفس بحجّة يكتبها الله لهم، ويظل الحاج المستجد محط اهتمام وتقدير الجميع لأسايع، وربما لشهور حتى تبدأ التحضيرات لموسم حج جديد فتتطلّع الأعين ،والنفوس لحاج جديد، يعود حاملا حكايات جديدة. ومع تطوّر الحياة، ووسائل النقل، والإتّصالات، زالت المخاطر، وتراجعت المشاق شيئا ، فشيئا ، وصار التوجّه للديار المقدّسة ،عند البعض ،رحلة تدخل في باب " السياحة الدينيّة"، ولم يعد الإصغاء للحاجّ كما كان، فالحكايات، والصور، والتفاصيل تصل للجميع أوّلاً بأوّل، قبل عودته ،من خلال تغطيّات الفضائيات المباشرة ، ووسائل التواصل الاجتماعي، ومقاطع الفيديو التي تتناقلها الهواتف الذكيّة، والإتّصالات الهاتفيّة المجّانيّة ، لكن حجّاج هذا العام أستقبلوا كما يستقبل حجّاج الماضي ، بالدموع، والهلاهل ،وذلك بعد نجاتهم من من حادثي سقوط الرافعة في الحرم يوم11 سبتمبر، والتدافع عند رمي الجمرات في "منى" صبيحة العيد، حامدين الله على سلامة عودتهم مترحّمين على ضحايا الحادثين ، مستزيدين من معرفة تفاصيل أكثر، فاتت على مراسلي الفضائيّات التقاطها، فصرنا كلّ يوم نسمع خبرا جديدا، وحكاية جديدة، عسى أن يستفاد مستقبلا من هذه التجارب الأليمة للحيلولة دون تكرارها ، وتبقى رحلة الحج محفوفة بالمشاق ،والمتاعب ، و" الأجر على قدر المشقّة" ، وليست رحلة سياحيّة ، أو تجاريّة ، كما تبدو للبعض ، وليت الذين زاروا البيت الحرام من قبل إفساح المجال لآخرين لم يحالفهم الحظ في تقبيل أركان الكعبة الطاهرة،والعودة برائحة مكّة المكرّمة.