مذكرات قلب مثقوب
مذكرات قلب مثقوب. (بنات القصر 2)
ذكريات الطفولة في القصر أشياء لا تُنسى، وهي غير قابلة للمحو بنات القصر. الأميرات. الأشجار. ألعاب الطفولة. الأعياد. الأمسيات الحالمة. العائلات المتقاربة. أم علي أم منصور …. الحب وأشياء اخرى.
غالبًا ما يسجل الطفل كل شيء في ذاكرته بشكل دوري،
وقد بقيت ذكريات طفولتي محفورة في الذاكرة تقاوم عوامل النسيان.
في هدوء الظلام كانت أسراب الطيور تنتقل بين أشجار القصر، تستمع لحوارات بنات من عائلات فقيرة، وعلاقاتهم قوية يسهرن سويًا، يلعبن سويًا، يدرسن سويًا، وينسجن أحلامهن معًا تحت أضواء القمر في باحة القصر يعمل آباؤهن موظفين بإدارة القصر تقول أختي الكبرى: أتذكر ونحن صغار تعطينا الأميرات “برتقال وفواكه”، وحين نرى البرتقالة رغم معرفتنا بها، لكننا من الفقر ننظر إليها بدهشة وذهول كأنها كائن غريب، ولأول مرة نرى برتقالة في بيتنا لظروف الفقر القاتلة بعض الأشياء في القصر تبدو لنا عجيبة وغريبة ننتظر اكتشافها مع عدم الاقتراب منها …..
وكانت بالقصر أميرة جميلة لطيفة ومتواضعة، تزور أخواتي في البدروم، وتقضي معهن سويعاتٍ عابرة، والذي يراهن من بعيد لا يفرق بين الأميرة وبنات القصر، كانت قريبة من الصغير والكبير ومحبوبة من الجميع؛ لأنها لم تترفع عنهن رغم أنها أميرة بنت أمير، ولكن بكل تواضع وبدون رسميات تلتقي ببنات القصر مرات عديدة أتذكر حين التقيت بها في (سيب البدروم) وأنا طفل لا أنسى قولها عني “تعال أنت ولد مين؟” ، وكنت أهرب منها، وهي تقول 《ليش خايف》 تداعبني بلطف ثم تمضي مودعة لي بإشارة لطيفة كانت غاية في الجمال والتواضع واللطف.
بنات القصر يتمتعن بعلاقات متينة مع بعضهن، وكان من أقواها علاقة أختي الكبرى بصديقتها الغامدية، وقد تعاهدن أن يتزوجن في يوم واحد، وليلة واحدة، وفعلًا هذا ماوقع فتزوجتا في يوم واحد، وليلة واحدة من صديقين خطباها في يوم واحد أيضًا.
يلعب بنات القصر وشبابه في مجموعتين لا تقترب مجموعة من أخرى، وغالب اللقاءات كانت تتم بإشراف الأهل، وتحت نظر الأبوين لتقارب السكن في بدروم الأقارب، وأما العائلات الأخرى فكانت في زوايا أخرى من القصر المتواضع الذي لا يزيد على مساحة القصر الحالي بسلطانة.
البدروم عبارة عن عدة غرف متقاربة بينها سِيب طويل كل شقة صغيرة مفتوحة على ذلك السِّيب الذي يطل على رصيف طويل لشارع يخلو من المارة غالبًا.
يكاد يكون سكان القصر معزولين تمامًا عن العالم الخارجي، لكن حين ترغب أي عائلة في الخروج للنزهة أو غيرها؛ فإنهم يخرجون بكل أريحية قد تجتمع بعض العائلات، ويخرج الجميع في رحلة جماعية تبدأ في الصباح، وتنتهي بغروب الشمس حيث يعود الجميع إلى القصر
وأحيانًا تكون النزهة بالجوار حين يسيل وادي العقيق الذي يقطع الطريق المؤدي لقصر الأمير ويجتمع حوله أهل المدينة.
لم تكن هناك فوارق طبقية أو غيرها بين سكان القصر فجميعهم طبقة فقيرة واحدة لا يمكن وصفها بأي نوع من أنواع الثراء، وهذه هي السمة الغالبة على سكان المدينة يدل لذلك بأنه لم تكن توجد سيارات وقتها بالمدينة إلا أربع سيارات سيارة الأمير وسيارة للسيد حبيب وسيارتين أخريين لبعض تجار المدينة غالب المواصلات كانت الدراجات الهوائية أو النارية
أو المشي على الأقدام.
يظن البعض بأن السعادة فقط داخل القصر، ولم يعلم أن القصر والبدروم سواء، وأن السعادة هي في القلب، وليست في المال أو الأبنية الكبيرة يمكن أن نقول إن المال جزء من السعادة، لكن السعادة الحقيقة تكمن
في البساطة كلما كنت بسيطًا متخففًا من الدنيا كلما كنت أكثر سعادة، وهذا ما شعرت به بنفسي حين كنا فقراء لا نملك
إلا غرفتين في بدورم صغير وقتها كانت أشعر أني أسعد طفل في العالم رغم أني كنت أرى أطفال الأميرات يمتلكون أكثر مما نملك يلبسون الأجمل ويأكلون الأفضل،
وهنا أتذكر الأمير الشاعر عبدالله الفيصل الذي كان من أثرياء العالم، ولكنه وقع ديوانه (محروم) مع أنه يمتلك كل شيء. وقال جربت كل شيء ووجدت السعادة في الإيمان.
في زوايا القصر تنتشر بعض الإشاعات والأساطير عن الجن في البدروم، وظهور بعض الآثار والظواهر الغريبة أتذكر منها ظهور كف يد عظيمة على جدار إحدى الغرف يجتمع سكان البدروم زرافاتٍ ووحدانا لرؤيتها لدرجة إزعاج أهل تلك الغرفة
من غرف البدروم
يخيل للناس البسطاء ظهور اليد واختفاؤها، لكنها لا تعدو أن تكون شيئًا نسجه خيال طفل أو فتاة بداعي الإثارة واليد عبارة عن أثر طيني ليد أحد العمال الذين شاركوا في بناء الجدار، ومع تموجات الضوء والنور تظهر كيدٍ متحركة…
كنت أتمنى أن يكون هناك رسام كبيكاسو يرسم القصر الذي لا تزال أطلاله شاهدة على تاريخ العابرين بالعقيق من علماء، وعبَّاد، وأمراء، ووزراء شعراء، وكتّاب، أدباء ومثقفين عشاق ومحبين مقيمين حاضرة وبدو بعض أطلال قصر سعيد بن العاص -رضي الله عنه- باقية إلى الوقت الحالي على يمين الداخل للقصر.
وسعيد بن العاص (2 ـ 59 هـ) هو سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس القرشي، كنيته أبو عبد الرحمن، مات أبوه يوم بدر في جيش قريش، وهو صحابي صغير مات النبي محمد، وله تسع سنين أو نحوها، كان أحد أشراف قريش وأجوادها وفصحائها الممدّحين كان يقول: “” لجليسي عليّ ثلاث خصال: إذا دنا رحبت به وإذا جلس أوسعت له وإذا حدث أقبلت عليه “”، وورد أنه استسقى ذات يوم من دار من دور المدينة فسقوه، ثم إن صاحب الدار عرضها للبيع بأربعة آلاف دينار كانت عليه، فقال سعيد إن له علينا ذمامًا وأداها عنه، وقد أطعم الناس في سنة مجدبة حتى أنفق ما في بيت المال وأدان، فعزله معاوية لذلك.
مات بالمدينة في قصره
عام 59 هـ، ودفن بالبقيع رحمه الله ورضي عنه.