كعادتي في بداية كل سنة ميلادية، قمت بإرسال رسالة على تطبيق الواتساب لمشرفتي على الدكتوراه، أستاذة الإحصاء التطبيقي في كلية العلوم بجامعة ويلز، البروفسورة “سيلفيا لوتكنز”، للسؤال عنها وتهنئتها بقدوم السنة الميلادية الجديدة.
البروفسورة “سيلفيا لوتكنز” تعيش الآن سنتها الثانية بعد المئة. هي إحدى طالبات عالم القرن والأب الروحي للإحصاء (ألا معلمي) البروفسور “ديفيد ليندلي”، في فترة الستينيات من القرن الميلادي الماضي بكلية العلوم في جامعة ويلز.
من زملائها في الدراسة البروفسور “جلال بن مصطفى الصياد”، أستاذ الإحصاء الرياضي ومشرفي على الماجستير في قسم الإحصاء بكلية العلوم في جامعة الملك عبدالعزيز، والبروفسور محمد سميع الدين -رحمه الله- أستاذ اختبارات الفروض الإحصائية في جامعة كراتشي، وأحد أساتذتي في الماجستير بجامعة الملك عبدالعزيز.
تلقيت منها رسالة جوابية تطمئنني فيها عن صحتها، وذكرت أنها لا تزال تمارس هوايتها في المشي، وذكرتني بتجاربنا حين كنت أشاركها تسلق الجبال في منطقة ويلز الشهيرة بكثرة الجبال والمرتفعات.
لا تزال كلماتها التشجيعية ترن في أذني قبل مناقشتي للدكتوراه، حين قالت: “بكري، لقد حصل على شهادة الدكتوراه قبلك المئات، وسوف يحصل عليها بعدك المئات.” وبعد ذلك قدمتني للجنة المناقشة وتركت القاعة قائلة: “أراك غداً.”
وعن ارتباطها بالكلية والقسم، ذكرت أنها تقدم محاضرة أسبوعية لطلبة الدراسات العليا حول طرق وأساليب ومهارات البحث العلمي، معربة عن سعادتها بعملها.
كما تطرقت في حديثها إلى قانون “البقاء في العطاء”، مؤكدة أن زملاءها الأحياء الذين يتمتعون بالصحة والقادرين على العطاء المتميز لم يتوقفوا عن نقل خبراتهم المتراكمة لزملائهم الجدد في الكلية، والمشاركة في المؤتمرات العلمية، وخدمة المجتمع والتعليم، والبحث العلمي.
لقد ذكرتُ في أكثر من مقال أن التفريط في الكفاءات العلمية المتميزة والقادرة على العطاء من أساتذة الجامعات سيحولها إلى مجرد مدارس ثانوية، مما سيكون له تأثير سلبي كبير على الإنتاج العلمي والبحثي.
نستذكر جميعًا قصة البروفسور “جون جوديناف”، أستاذ فيزياء الجوامد ورئيس مختبر الكيمياء غير العضوية في جامعة أكسفورد، الذي أجبرته قوانين التقاعد في جامعة أكسفورد على ترك الجامعة عام 1986م. عمل بعدها أستاذًا في معهد ماساتشوستس للتقنية، ثم انتقل إلى كلية الهندسة بجامعة تكساس الأمريكية.
حصل جوديناف على قلادة العلوم الوطنية، وجائزة فيرمي التي تُمنح للعلماء ذوي المكانة الدولية لإنجازاتهم في تطوير وإنتاج الطاقة، وجائزة اليابان الكبرى التي تُمنح لمن خدموا التكنولوجيا والطب والفيزياء. كما استُحدثت جائزة باسمه تُمنح لمن يساهمون في تطوير علوم المواد.
في عام 2019م، حصل جوديناف على جائزة نوبل في الكيمياء وهو في السابعة والتسعين من العمر، ليصبح أكبر حائز على هذه الجائزة منذ إنشائها عام 1901م. ظل يعمل بنشاط حتى وفاته في عام 2023م، عن عمر ناهز المئة عام.
هذه النماذج تذكّرنا بأن الخبرة والمعرفة المتراكمة لأعضاء هيئة التدريس هي رصيد ثمين لا يمكن التفريط فيه، وأن البقاء في العطاء هو السبيل لتحقيق النهضة العلمية والبحثية.