المقالات

عن المصححين المصحصحين

زاوية منفرجة

قبل سنوات ليست بالبعيدة، عرضت العديد من القنوات التلفزيونية المصرية شريطا مصورا أعدته وزارة الداخلية، لطوابير من الجنود والمركبات، المناط بها تأمين الانتخابات البرلمانية، وفي واجهة حاملة جنود أنيقة تصدرت الموكب، كانت هناك لافتة طويلة وعريضة من القماش، وقد كُتب عليها بخط رقعة جميل “نحن فداكي يا مصر”. فداكي على وزن “كاكي” الذي هو الزي العسكري، وهكذا نالت الكسرة ترقية، وصارت حرفا ذا شخصية اعتبارية، هو الياء.​ مصر التي، ما من دولة عربية، إلا واستعانت بشبابها وشيوخها لتدريس العربية، فدرس على أيديهم مئات الآلاف، الذين تولى بعضهم تدريس اللغة “على أصولها” لشباب بلدانهم، مصر التي كان من يحمل فيها ومنها لقب “درعمي”، ينال ثقة مستمعيه وقرائه، لأن اللقب شهادة بأنه خريج “دار العلوم”، التي لم يكن الدارس فيها ينال البراءة، إلا عن استحقاق وجدارة، مصر تلك، صرت تسمع فيها “نحنو شَبابكي فداكي”
صديقي الشيخ الدكتور عبد السلام البسيوني، فلاح مصري فصيح، وداعية إسلامي، لسانه ينقط عسل، يتهمه الليبراليون بأنه “ظلامي”، ويتهمه المتشددون الإسلاميون بأنه ليبرالي، وكلما التقيت به قلت له: سبحانه الذي أسرى بعبده من زفتا إلى سايبريا، وزفتا هي مسقط رأسه في مصر، في حين أن سايبيريا هي عالم “السايبر” الاسفيري، حيث جمهوريات غوغل ويوتيوب وفيسبوك، فقد كان الرجل حتى مطلع الألفية الثالثة، يخاف من الأجهزة الكهربائية والإلكترونية، وفجأة صار حجة في شؤون الإنترنت وتقنية المعلومات، وعيني عليه باردة، لأنه أصدر حتى الآن 120 كتابا، كل واحد منها محكم الحبك والسبك، وثري المحتوى، وأصدر قبل سنوات كتابا يتناول فيه تجربته كمصحِّح/ مدقِّق لغوي في عالم الصحافة.
من الأمثلة التي أوردها البسيوني في كتابه، والتي يلحظها كل ذي شاهد حس لغوي شبه سليم، مما تعج به الصحف ومنتديات الانترنت: “لِما فعلت ذلك”، بدلا من “لِم”، والسلامو عليكم”، و”أنتي تركت كتابكي في السيارة”، و”فرائظ الوظوء”. وما من كاتب صحفي جاد ومسؤول، إلا وضايقه تدخل المصحح اللغوي فيما يكتب، حتى لو كان التدخل مبررا، لأنه يُذكِّر الكاتب بأن ما حدث كان بسبب “نقص القادرين على التمام”، بينما اكتسب البعض مسمى كاتب، ولحم أكتافهم من خير المصححين اللغويين، أي أنهم يكتبون فسيخا، ليحوله المصحح إلى شربات، وهذه الفئة من الكتاب كل همها أن تقرأ اسمها مكتوبا قرين مقال، حتى وهي تدرك أن حصتها الحقيقية من المقال دون ال60% بكثير أو قليل.
عندما كنت أكتب في مجلة “المجلة” في حقبتها اللندنية، كان بها مصحح عراقي، يتحسس من المفردات العامية في المقالات، حتى ولو كان وجودها ضروريا للسياق العام للمقال.
ذات مرة أوردت اسم مسرحية عادل إمام المشهورة “شاهد ما شافش حاجة” فما كان منه إلا أن جعلها “شاهد لم ير شيئا”. ومهما كان المصحح يقظا فإن ضغوط العمل قد تجعله لا ينتبه إلى أخطاء “طباعة” جسيمة، ومن ثم قرأنا كيف أن (أكبر دار للنشر) أصبحت (أكبر دار للشر) و(أوسع المجلات العربية انتشارا) أصبحت: (أوسخ المجلات العربية….)، و (حقوق الطبع محفوظة لورثة المؤلف) أصبحت (حقوق الطبع محفوظة لورشة المؤلف)
ونجد في كتاب البسيوني، نماذج لأخطاء من الواضح أنها نجمت عن غفلة المصحح، أو عدم وجود مصحح، فبعد هزيمة 1967م. (اسم الدلع “نكسة”) قام طلاب جامعة الإسكندرية بإضراب شامل احتجاجًا على الأوضاع. وبعد توسط من الرئاسة تم إنهاء الإضراب، وفي صباح اليوم التالي نزل عنوان في صحيفة الأخبار المصرية كالتالي: كلاب الإسكندرية ينهون إضرابهم، ولم تكن الصحيفة بأي حال تهدف إلى الإساءة إلى الطلاب، ومع هذا نشأت أزمة بسبب هذا الخطأ، وعاد الطلاب لإضرابهم، وثارت رئاسة الجمهورية على هذه الصحيفة التي أصبحت مكروهة من الطرفين! ويتحمل من قام بالصف (الطباعة)، ومن بعده المصحح ثم مدير أو رئيس التحرير، تبعة خطأ كالذي وقعت فيه الأهرام المصرية عندما أرادت حث المسؤولين على تجديد شباب القضاء، ونزل العنوان كالتالي: الأهرام يطالب بتجريد ثياب القضاة!
وكل من عمل بالصحافة يعرف أن مثل هذه الأخطاء ترد كثيرا، ليس بالضرورة نتيجة غفلة، بل لأن الإنسان كثيرا ما يقرأ كلاما على النحو الصحيح، رغم أنه قد يحوي خطأً صارخا، فالعين البشرية كثيرا ما تفشل في تحديد مواطن الخلل في الكلمة أو الصورة، بسبب ما يعرف بالخدعة البصرية، فلو قلت لمجموعة من الناس إقرأوا:
“الله أكبر ولله
ولله الحمد”
لن ينتبه معظمهم إلى أن “لله” مكررة، وهكذا يفوت على القائمين على أمور التحرير والتصحيح الصحفي، رصد أخطاء الطباعة والصف، لأنهم يصححون الخطأ ذهنيا ولا ينتبهون إلى الخطأ الماثل أمام أعينهم. ومن ثم تحدث أخطاء فاضحة ومضحكة: وزير الـ… يختفي بالوزيرة الزائرة، بينما المقصود: يحتفي بالوزيرة! وانقلاب عسكري في مدينة…! بينما متن وفحوى الخبر أن رجل المرور في إحدى، المدن انقلبت به الدراجة النارية!
​(أرجو من المدقق في هذه الصحيفة ألّا يقول: باب النجار مخلّع، عندما يكتشف أنني ارتكبت خطأ لغويا هنا أو هناك).
• مصحصح بمعنى يقظ ومنتَّبه قد لا تكون فصيحة، ولكنها بليغة في تقديري.

جعفر عباس

كاتب صحفي (ساخر)

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. وانت يا أستاذ الصحافة الساخرة منت من البعض؟

    والله سعيد بوجودك في صحيفة مكة الالكترونية

اترك رداً على طلال سروجي إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى