بينما نمكث في صالة الانتظار في أبها في طريقنا للرياض للمشاركة في تأبين الغالية صاحبة السيرة الطيبة، أمسكتُ بجهازي المحمول محاولًا تدوين بعض ما أشعر به، فتزاحمت لدي الأفكار، وتعمدتُ أن يكون الدخول من بابٍ واحد فقط، وإلا فالأبواب للحديث عنها مشرعة. فقلت:
على عجل، غادرت دنيانا شقيقتي الغالية “مهرة”..
وليس لنا ولها من الأمر إلا ما كُتب، ولله الأمر من قبل ومن بعد..
وعلى ما تتمتع به في حياتها من لين الجانب وسهولة التعامل، كانت عصيّة على كل الظروف القاسية.
لديها من حميمية المشاعر ما إن لو تم توزيعه على كل من حولها لكفاهم.
سهلة يسيرة، هاشة باشة مع ذوي القربى، كثيرة السؤال والتواصل والوصول، تبادر بالزيارة وهي الأحق بها.
لا، ولم تشتكِ جور الأيام، ولا اعتلال الصحة.
هي لا تكتم إيمانها، بل كانت حامدة لربها، ذاكرة شاكرة، تتبسم وتضحك، وتُخفي على من حولها ما ألمّ بها؛ فبين أضلعها من الهمّ ما إن مفاتحه لتنوء به أولو العصبة من الرجال.
طافت بها الأيام، وتسارعت بها الليالي، وربما تبخرت كثير من الآمال والأحلام.
عاشت في كنف رجل كريم بكل ما تعنيه الكلمة، لم يدّخر جهدًا في تذليل ما قد يواجهها من معوقات ومنغصات.
راضية تلك المهرة (رغم ألم الجوى)، فانكساراتها لا تظهر للعيان، قادرة “عنوةً” على الكتمان، ساعية (في أسرتها) لبث روح الأمان.
ومع تلك السنين الطوال، لا أعلم أنها قالت عن أهل زوجها كلهم كلمة جارحة.
شهد لها بحُسن الطباع كل من عرفها وتعامل معها، (في مواقع العزاء تكلم عنها البعض، وشهد على الملأ أحدهم بخصالها الحميدة).
كانت تتحامل على نفسها في كل وقتٍ وحين، تتجمل بالخُلق الحسن، وتتقوى بالصبر المتين.
ومع نوائب الدهر، لا ولم تتزعزع ثقتها بالمولى عز وجل.
وبينما هي تُمنّي النفس (في حديث سابق) بلقاء الأسرة السنوي في أيام العطل، كانت الرياح تجر السفينة (سفينة الحياة) بعيدًا عن المرفأ.
وظلت ظروفها الصحية تأكل في جسمها، وتستوطن بين حنايا ضلوعها، حتى لامس ذاك القلب “الرهيف”، ونال من صحتها ما نال.
وعلى حين غِرّة، داهمها المرض تباعًا، وتوالت الجلطات دون رحمة، حتى أتاها اليقين.
وذات ليلة لم تُطَل، وبأمر المولى، ولا رادّ لِقَدَرِه، أتانا خبر وفاتها، فتلعثم الكلام، وتبعثرت الأحرف، وعزّ الخطاب..
فالأمر جلل..
وإن سبق أجلها لُقياها بثمرة من كبدها، فإن الرجاء أن يكون اللقاء على سررٍ متقابلين، وما ذلك على الله بعزيز.
والحمد لله على كل حال.
إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإنا على فراقك يا مهرة لمحزونون.
إنا لله وإنا إليه راجعون.
ولمّا اغرورقت عيناي، ابتلّت الصفحة، فسكت الحرف، وجفّ القلم.