المقالات

في قلب طهران: دبلوماسية الدفاع السعودية تبني مسارًا جديدًا للأمن الإقليمي”

<حينما تتحول أدوات القوة من الردع إلى التقارب، يصبح للدبلوماسية بُعدها العسكري الذي يعيد ترتيب أوراق المنطقة>
في منعطفٍ سياسيّ غير مسبوق، شهدت الساحة الإقليمية حدثًا بالغ الأهمية يتمثل في الزيارة التاريخيّة التي قام بها صاحب السمو الملكي الأمير خالد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، وزير الدفاع السعودي، إلى العاصمة الإيرانية طهران، وهي الزيارة التي أعادت رسم ملامح المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط، وأعطت بعدًا جديدًا لما بات يُعرف بـ”دبلوماسية الدفاع” كأداة فعّالة لإعادة بناء الثقة، وتجاوز التحديات الأمنية، وبناء الجسور مع الأطراف الإقليمية المؤثرة، ضمن سياسة المملكة الرامية إلى إرساء الأمن والسلام في المنطقة.
إعادة تعريف أدوات القوة في الدفاع الوطني والإقليمي
لطالما ارتبط مفهوم الدفاع في العلاقات الدولية بالردع والاستعداد للمواجهة العسكرية، غير أن المملكة العربية السعودية بقيادة مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، وسيدي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد، رئيس مجلس الوزراء – حفظهما الله -، قد أعادت تعريف مفهوم الدفاع من خلال مقاربة شاملة تأخذ في الاعتبار المتغيرات الاستراتيجية والأمنية في المنطقة، وتنظر إلى الأمن من منظورٍ تكامليّ يربط بين الاستقرار السياسي، و النمو الاقتصادي، و تعزيز الأمن الإقليمي وهو ما يحقق نتائج بناءة ومثمرة على صعيد العلاقات الدولية، ويُسهم في تحقيق ازدهار ونمو مستدام للمنطقة.
وتأتي زيارة سمو وزير الدفاع السعودي لطهران كترجمة عملية لهذه الرؤية الجديدة التي تؤمن بأن الحلول المستدامة لا تُبنى بالتصعيد والمواجهة، بل بالحوار والشراكة والاحترام المتبادل بين الدول، حتى وإن كانت هناك خلافات تاريخية معقّدة. فهذه الزيارة تمثل اختراقًا نوعيًا في جدار العلاقات السعودية-الإيرانية، وتعكس رغبة صادقة في تحويل صفحة الماضي إلى مرحلة جديدة قوامها التفاهم والمصالح المشتركة.
من التقارب الدبلوماسي إلى الحوار الأمني
منذ اتفاق استئناف العلاقات بين الرياض وطهران في مارس 2023 برعاية الصين، شهدت العلاقات بين البلدين تقدمًا ملحوظًا، إلا أن زيارة سمو وزير الدفاع السعودي جاءت لتفعيل هذا الاتفاق على الصعيدين الأمني والعسكري، ونقلته من الإطار الدبلوماسي إلى الواقع العملي. إن الحوار بين وزيري الدفاع في البلدين في طهران يحمل رسائل بالغة الأهمية تتجاوز حدود العلاقات الثنائية، لتشمل كل قضايا المنطقة بأسرها، بما فيها أمن الخليج، واستقرار العراق، وسلامة الملاحة في البحر الأحمر، والملف اليمني، والتوازن الإقليمي في ظل التحولات الدولية.
فالرسالة الأهم من هذه الزيارة تتمثل في تأكيد المملكة على أن أمن المنطقة لا يمكن أن يُبنى من خارجها، وأن الحلول المفروضة من الخارج لن تُنتج سوى مزيدٍ من التوتر. وعلى النقيض من ذلك، فإن انخراط الدول الفاعلة في حوارات أمنية مباشرة، دون تدخلات خارجية، هو الطريق الأجدى لضمان استقرار طويل الأمد.
رؤية سعودية متكاملة للسلام الإقليمي
جاءت الزيارة أيضًا في سياق رؤية السعودية 2030، التي تتبنى سياسة خارجية استباقية تقوم على تحقيق التوازن بين المصالح الاقتصادية والتحالفات الأمنية. فالمملكة لا تسعى فقط إلى التهدئة، بل إلى بناء شراكات استراتيجية تبدأ بالأمن وتمتد إلى الاقتصاد والطاقة والاستثمار المشترك، ضمن رؤية سعودية تسعى إلى ترسيخ منظومة إقليمية متماسكة تقوم على الشراكات الفعالة والتنمية المستدامة. ويأتي التعاون مع إيران كجزء من هذه المقاربة الجديدة التي تستبدل نهج الصراع بسياسة التفاهم والتكامل، بما يُسهم في استقرار الخليج وتوازن المنطقة بأسرها. ومن هنا، فإن إسناد هذا المسار إلى وزارة الدفاع يحمل دلالة استراتيجية عميقة، تؤكد أن المملكة تسعى إلى نزع فتيل التوتر عبر المؤسسة التي تُشكّل خط الدفاع الأول.
وبما أن إيران تُعد أحد اللاعبين الإقليميين، فإن الانفتاح السعودي تجاهها ليس تنازلًا عن المبادئ، بل خطوة عقلانية لتجنيب المنطقة مزيدًا من التصعيد، وإعادة توجيه الموارد نحو البناء والازدهار، بدلًا من الصراعات التي استنزفت قدرات الدول وشعوبها لعقود.
الأثر الإقليمي المتوقع
من المتوقع أن تُسهم هذه الزيارة في تخفيف حدة الاستقطاب الإقليمي، وفتح قنوات للتواصل بين القوى الكبرى في الخليج، كما يُرجّح أن تنعكس إيجابيًا على الأوضاع في اليمن وسوريا ولبنان، فضلًا عن تعزيز جهود خفض التوتر في مضيق هرمز وبحر العرب. كما أن هذه الخطوة قد تمهد لتعاون مستقبلي في الملفات المتعلقة بالأمن السيبراني، ومكافحة الإرهاب، وتهريب السلاح، وكل ما من شأنه أن يزعزع استقرار المنطقة.
ويُؤمَل أن تكون هذه الزيارة بداية لتعاون مؤسسي دائم بين وزارتي الدفاع في البلدين، ما قد يؤدي إلى إنشاء آليات تنسيق أمني على غرار تلك التي شهدتها بعض التجارب الإقليمية الناجحة في أوروبا وآسيا. وهذا بدوره يُسهم في بناء ثقة استراتيجية قادرة على تجاوز الحسابات الظرفية والمواقف السياسية المؤقتة، مما يعزز استقرار المنطقة ويسهم في ترسيخ الأمن الإقليمي على المدى الطويل.
تهنئة لهذه الخطوة التاريخية
نُثمّن هذه الخطوة الاستراتيجية، ونتوجه بالتهنئة إلى القيادة السعودية الحكيمة على هذا التحرك الشجاع، الذي يعكس قوة المملكة في اتخاذ القرارات الاستراتيجية بعيدًا عن الاستقطابات الإقليمية. هذه الخطوة تُظهر الثقة الكبيرة التي تتمتع بها القيادة، وتؤكد أن الدور السعودي لا يكتمل إلا من خلال تحقيق الأمن الشامل للمنطقة، لا الأمن الأحادي أو المؤقت.
إن هذه الخطوة، في جوهرها، تؤكد أن المملكة العربية السعودية لا تنتظر الأحداث بل تصنعها، ولا تُدار بالأزمات بل تُديرها، ولا تتأثر بالعلاقات الدولية بل تؤثر بها، مع التركيز على أمن المواطن العربي، واستقرار الشرق الأوسط، وتنمية المنطقة، التي تُعدّ بوصلة لأي تحرك أو تقارب.
الخاتمة
في ختام هذه الزيارة التاريخية، يتجلى بوضوح أن المملكة العربية السعودية ماضية في ترسيخ مكانتها كقوة إقليمية مسؤولة، تدير علاقاتها وفق رؤية شاملة تؤمن بالحوار البناء وتوازن المصالح، ولا تخشى التحديات. وإن كانت هذه الزيارة قد فتحت أبوابًا جديدة للتفاهم مع إيران، فإن ما بعدها سيكون مسؤولية مشتركة لإثبات قدرة دول المنطقة على صناعة السلام بنفسها، دون تدخلات خارجية.
فدبلوماسية الدفاع التي حملها الأمير خالد بن سلمان إلى طهران ليست مجرد زيارة بروتوكولية، بل هي إعلان صريح عن بداية مرحلة جديدة في تاريخ المنطقة، عنوانها: السلام بالشجاعة، والشراكة بالتعاون، والمستقبل بالأمل.
حفظ الله المملكة وقادتها وشعبها، وأدام عزها ومجدها ووحدتها، وجعلها ذخراً للإسلام والمسلمين.
أستاذ القانون الدولي – جامعة جدة

#سياسي-دولي-دبلوماسي

د. محمد بن سليمان الأنصاري

أستاذ القانون الدولي - جامعة جدة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى