الحمدلله والصلاة والسّلام على رسول الله وبعد :
فكثيرا ما يغضب مني بعض النّاس حين أصف الليبراليّة والعصرانيّة ورموزها بالنفاق، وهذا يؤلمني كثيراً، لا لمجرّد المخالفة، وإنّما لما ينطوي عليه هذا الإنكار من غفلة عن حقيقة النفاق وخطورته .
فكثير من النّاس للأسف لا يتصوّر وجود النّفاق، بل تصوّره عنه أقرب إلى الخيال، وكأنّه يقرأ عن شخوص تاريخية لا واقع لها، مع أنّ الحقيقة الّتي يعرفها أهل العلم بالسنة أنّ النّفاق كلّما تقدّم بنا الزمن يزداد تغلظاً وسَعَة .
في الأثر عن حذيفة رضي الله عنه قال: «إن كان الرّجل منكم ليتكلّم بالكلمة على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فيصير بها منافقًا، وإنّي لأسمعها اليوم من أحدكم عشر مرّاتٍ» .
وعنه رضي الله عنه قال:«إنّكم معشر العرب اليوم لتأتون أمورًا إنّها لفي عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم النّفاقُ على وجهه» .
في الحقيقة،لا أحتاج الآن إلى التّدليل على أنّ القرآن لم يعالج قضية إيمانيّة نفسيّة كقضيّة الّنفاق، سواء عبر اسمه الصريح أو عبر التحذير من مظاهره وتشكّلاته السلوكية والعقائديّة .
والخطورة لا من مجرّد كيد المنافقين للمؤمنين وتربّصهم بهم وحسب، وإنّما من خطورة الخطاب النفاقي أصلاً، وكونه خطابا معسولاً لا يجابه بل يكذب ويتلوّن، ولا يصرّح بهدفه الحقيقي -وهو الإفساد- وإنّما يتدثّر بعباءة الإصلاح .
ويكفي في بيان هذا أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو من هو في العلم بالله والعناية الربّانية قال الله في حقّه : {وإن يقولوا تسمع لقولهم} .
لقد كان النّفاق في عهد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه معضلة كبيرة أخذت من خطاب الوحي مأخذاً، وشغلت منه حيّزاً، حتّى إنّه صحّ عن جابر بن عبد اللّه، أنّه قال: كنّا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في سفرٍ فهاجت ريحٌ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «بعثت هذه الرّيح لموت منافقٍ».
قال : فلمّا رجعتُ فإذا هو قد مات في ذلك اليوم منافقٌ عظيم النّفاق»،حتّى الأمور الكونيّة كانت تتأثّر بوجود النّفاق !
والله تعالى بيّن -في القرآن خاصّة- حقيقة النفاق وعوارضه وأخلاق أصحابه وطرائقهم وأساليبهم، وزاد ذلك النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بياناً، وتفاعل الصّحابة رضوان الله تعالى عليهم وتابعوهم بإحسان مع هذا فتحدّثوا في شأن النفاق والمنافقين بأقوال كثيرة تدلّ على خطورته على الفرد وعلى الأمّة .
ومن الأصول الثّابتة عند من فَقِهَ أنّ النفاق ليس حالة مرت بها الأمّة زمناً مّا وانتهت، بل هو باقٍ في الأمّة ما بقي الليل والنّهار، وإنّما يضعف في أزمنة ظهور العلم والسنّة والدين، ويقوى في أزمنة ضعف السنة وظهور البدعة .
والنّفاق ليس شرطا أن يكون بسبب الخوف كما يظن البعض، بل قد ينافق الشخص لغرض خداع الأمّة وإفسادها، وينافق لغرض من أغراض الدّنيا وأطماعها كالمال والجاه، فليس شرطاً أنّ النفاق لا يظهر إلاّ في زمن قوّة الدين كعهد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم .
والنفاق كمرض قلبي عضال له مظاهره السلوكيّة، وله لغته البيانيّة، وله مظاهره وأعراضه الّتي متى بدت على الفرد لزمه وَسْم النفاق حتى لو فرض أنّه مؤمن بباطنه، فالله تعالى لم يكلّفنا التّنقيب عن البواطن، لكن الله تعالى تكفّل بفضح المنافقين بسيماهم وبفلتات ألسنتهم وأفعالهم قال تعالى : { ولو شئنا لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنّهم في لحن القول} .
وبمثل ذلك تُعامل الاتجاهات الفكرية والفرق العقائديّة والجماعات والأحزاب كذلك، فالنفاق قد يوجد أصله وفرعه، كما في المنافقين الخلّص .
وقد يوجد منه فرعه في بعض المؤمنين فيكون فيهِ شعبة منه، وإن كان مؤمناً في الأصل كما قال صلّى الله عليه وسلّم في الصّحيح: «أربعٌ من كُنّ فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر».
وأمارات النفاق وعلاماته لا تقتصر على هذه الأربع، ولكن من علامات النفاق ما يمكن أن يجامع أصل الإيمان، مثل الكذب في الحديث وإخلاف الوعد .
ومن علاماته ما لا يجتمع مع أصل الإيمان الباطن الصّحيح إلاّ كما يجتمع الخلّ والعسل، وهذه العلامات دالّة على فساد الاعتقاد والإيمان وصاحبها على خطر عظيم وربّما لا يشعر لفساد تصوّره وفرط جهالته بذلك كما قال تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُون * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُون}.
والخطاب الليبرالي والعلماني -واسوأ منه العصراني- خطاب خادع خلطَ الحق بالباطل، فأصبح مصيدة لكثير من النّاس فوقعوا في أباطيله بقصد وبدون قصد، بل سرَت مفرداتُه واصطلاحاتُه على ألسنة كثير من الطيبين، ظناً منهم أنّهم يتكلمون بالحق وهم في حقيقة الأمر يؤدّون وظيفة توصيل الباطل بمركب الحق، وهي مهنة نفاقية بامتياز .
وممّا زاد الطين بلّة ما تشهده الأمّة في هذه الأيّام من فتن سبّبها الطغيان، والاستبداد، والاستئثار، وتحكيم غير شريعة الله في المسلمين، حتّى شهدنا هذه الثورات الّتي علت فيها الأصوات المطالبة بالحقوق المشروعة، لكن في خضمّ ذلك دُسّ السمّ في العسل، وتمّ تمرير كثير من المفاهيم الّتي لا تتّفق مع الإسلام من أصله خاصة مبدأ الحريّة، حرية الاعتقاد والرأي والسّلوك .
على كل قارئ لهذه الوقات أن لا يجفل من وجود علامة ممّا ذكرناه على بعض من نحسن بهم الظنّ، فإنّ أحداً ممّن نجلّهم لن يكون خيراً من الجيل الّذي ربّاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومع ذلك لم يكن وجود شيء من أمارات النفاق على أحدهم يشفع لهم عدم التّهمة وإن كانوا مؤمنين بالباطن، ولاشكّ أنّ عِرض المسلم حفرة من حفر النّار، لكنّ القاعدة الشّرعيّة تقول: إنّ اتهام الشّخص بما أظهر علامتَه لا يتعارض مع صيانة عرضه .. وفي السّنة الدّليل .
1. في الصحيح من حديث محمود بن الربيع عن عتبان بن مالك لمّا طلب من النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يصلي في بيته قال : « فآب في البيت، رجال من أهل الدار ذوو عدد، فاجتمعوا، فقال قائل منهم: أين مالك بن الدخيشن أو ابن الدخشن؟ فقال بعضهم: ذلك منافق لا يحب الله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقل ذلك، ألا تراه قد قال: لا إله إلا الله، يريد بذلك وجه الله» قال: الله ورسوله أعلم، قال: فإنا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإن الله قد حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله »
فالصحابة جعلوا هذه العلامة تهمة للرجل وإن كان هو قد شهد له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالإيمان لكنه لم ينكر عليهم جعلهم هذه العلامة تهمة بالنفاق .
2. في الصحيح كذلك في قصة حاطب بن أبي بلتعة لمّا أخبر قريشا بعزم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم السير إليهم، وبعدما أقرّ بذلك قال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، قال: «إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» فالنّبي صلّى الله عليه وسلّم لم ينكر على عمر وِسْمَه بالمنافق، وإنّما بيّن له أنّ هذه العلامة يقاومها علامةُ صدق، وهي أنّه شهد بدراً، وبدر لم يشهدها منافق .
3. في قصة الإفاك لما قام النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يستعذر من ابن أبيّ قام سعد بن معاذ، فقال: يا رسول الله، أنا والله أعذرك منه إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا، ففعلنا فيه أمرك، فقام سعد بن عبادة – وهو سيد الخزرج، وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية – فقال: كذبت لعمر الله، لا تقتله، ولا تقدر على ذلك، فقام أسيد بن حضير فقال: كذبت لعمر الله، والله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين» فهذا أسيدٌ رضي الله عنه قال ذلك بمحضر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم والصحابة ممّا يدل على أنّه كان علامة مشهورة بينمهم الجدل عن المنافقين والدفاع عنهم .
وهل يجوز اتهام من ظهر عليه علامة النفاق الاعتقادي بالنفاق ؟
ليس هذا مقصوداً لي في هذه الورقات، وإنّما القصد أن لا يجعلنا إحسان الظنّ ببعض الفضلاء أن نجفل من إنكار زلاتهم، أو قبول ما جاء عنهم، والسّكوت عن وقوع بعضهم في مشاكلة المنافقين الخلص من ليبراليين وعلمانيين ونحوهم .
قال الإمام سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب : «المسألة الخامسة: هل يقال لمن أظهر علامات النفاق ممن يدعي الإسلام أنه منافق، أم لا؟
الجواب: أنه من ظهرت منه علامات النفاق الدالة عليه، كارتداده عند التحزيب على المؤمنين، وخذلانهم عند اجتماع العدو، كالذين قالوا: {لو نعلم قتالاً لاتبعناكم}، وكونه إذا غلب المشركون التجأ معهم، وإن غلب المسلمون التجأ إليهم، ومدحه للمشركين بعض الأحيان، وموالاتهم من دون المؤمنين، وأشباه هذه العلامات التي ذكر الله أنها علامات للنفاق، وصفات للمنافقين، فإنه يجوز إطلاق النفاق عليه، وتسميته منافقاً.
وقد كان الصحابة، رضي الله عنهم، يفعلون ذلك كثيراً، كما قال حذيفة، رضي الله تعالى عنه: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون بها منافقاً»، وكما قال عوف بن مالك لذلك المتكلم بذلك الكلام القبيح: «كذبت، ولكنك منافق» ..وأشباه ذلك كثير ..ولكن ينبغي أن يعرف: أنه لا تلازم بين إطلاق النفاق عليه ظاهراً، وبين كونه منافقاً باطناً; فإذا فعل علامات النفاق، جاز تسميته منافقاً لمن أراد أن يسمّيه بذلك، وإن لم يكن منافقاً في نفس الأمر، لأنّ بعض هذه الأمور قد يفعلها الإنسان مخطئاً لا علم عنده، أو لقصد يخرج به عن كونه منافقاً، فمن أطلق عليه النفاق لم يُنكر عليه، كما لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على أسيد بن حضير تسميته سعداً منافقاً، مع أنه ليس بمنافق، ومن سكتَ لم يُنكر عليه، بخلاف المذبذب الذي ليس مع المسلمين، ولا مع المشركين، فإنه لا يكون إلا منافقاً»أنتهى من الدرر السنية.
قلتُ : وقد صحّ عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: «ثلاثٌ إذا كن في عبد فلا تتحرج أن تشهد عليه أنّه منافق، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان».
وعنه أنّه قال: «ليأتين على الناس زمان يجتمعون في المساجد وما فيهم مؤمن».
وعن حذيفة، قال: «إنكم اليوم تستعينون في غزوكم بالمنافقين»، فقد كانوا إذن في صفوف المسلمين حتى في الغزو.
وهذا يعني أنّ المنافقين موجود معنا في كلّ مكان، بل من يأمن أن يكون هو نفسه موصوفاً به، قال الإمام البخاري رحمه الله :« باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر : وقال إبراهيم التيمي: «ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذباً» وقال ابن أبي مليكة: «أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كلهم يخاف النفاق على نفسه» وعن الحسن: «ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق» .
وقد أصبح الحديث في هذا الأمر بصراحة ووضح من أشدّ ما يكون على كثير من النّاس بسبب غربة الدين والسنّة، ومجاملة النّاس بعضهم لبعض على حساب الدين،قال الإمام محمد بن عبدالوهاب : «ومن أفضل الجهاد: جهاد المنافقين في زمن الغربة» .
ومن هذه الباب رأيت نصيحة لي ولإخواني أن أبيّن في عجالة أبرز محدّدات النّفاق في الخطاب الليبرالي والعصراني وأقصد بهم العلمانيّين الّذين اتخذوا من الليبراليّة اسماً جديداً، وذلك لنفور النّاس من العلمانيّة فاستبدلوها بالليبرالية، والعصرانية هي الخطاب النفاقي الذي يظهر الإسلام عبر الدعوة للديموقراطية والحقوق المدنية وينادي بنبذ الفرقة بين المسلمين والعودة إلى إسلام قبل المذاهب وعدم الارتكاز في فهم الإسلام على السّلف بل على القرآن والسنة مباشرة ونحو ذلك، وأصحاب هذا الاتجاه أشدّ مكراً وخطورة بما لديهم من مسلك أخلاقي وظواهر حسنة وسمت ينخدع به وله بعض النّاس، لكنّهم من أشدّ ما يكون إرجافا وتخذيلاً للمؤمنين وتثبيطا عن الدعوة للشّريعة وتحكيمها، ويأتي هذا إن شاء الله .
وربّما وجد البعض في كلامي نوعاً من الشدّة فأنكره فعذري ما قال الرّافعي رحمه الله في مقدمة (تحت راية القرآن) في رده على المجرم طه حسين : «ونحن مستيقنون أن ليس في جدال من نجادلهم عائدة على أنفسهم، إذ هم لا يضلون إلا بعلم وعلى بينة! فمن ثم نزعنا في أسلوب الكتاب إلى مَنحى بياني نديره على سياسة من الكلام بعينها، فإن كان فيه من الشدة أو العنف أو القول المؤلم أو التهكم، فما ذلك أردنا، ولكنا كالذي يصف الرجل الضال ليمنع المهتدي أن يضل، فما به زَجر الأول بل عظة الثاني .. ولو كان أصحابنا غير مَن هم في الأثر والمنزلة لكان أسلوبنا غير ما هو في النمط والعبارة، والسلام» انتهى .
وليس للتّرتيب أيّ هدف من حيث الأهمية وعدمها وإنّما ذكرتها حسب ورودها على الخاطر، ولا أستشهد بحديث مرفوع إلاّ أن يكون صحيحاً، والله الموفّق.
[ALIGN=CENTER][COLOR=crimson]محدّدات النّفاق في الخطاب الليبرالي والعصراني[/COLOR][/ALIGN] (1/؟؟)أولاً : التّهوين من المنكر والاستخفاف به
أصل النّظر للذّنوب والمنكرات خطورتها وحجمها راجع في الأساس إلى إيمان المرء ويقينه بالله واليوم والآخر .
ولهذا تجد في حوار العلماء في تحديد الكبائر مقولة رائجة رائقة : «لا تنظر إلى صغر المعصية ولكن انظر إلى عظم من عصيت » .
وهذا صحيح، فالفرق بين الذنوب صغيرها وكبيرها راجع إلى ذات الذنب، وإلاّ فإنّ المؤمن الصّادق كلّ ذنب عنده كبير ولو صغر، والمنافق كلّ ذنب عنده صغير ولو كبر .
وهذا بيّنه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم هذا الأمر على مستوى الفرد حيث إذ قال : «المؤمن يرى ذنبه كالجبل فوقه يخاف أن يقع عليه، والمنافق يرى ذنبه كذباب مرّ على أنفه فأطاره» .
ولهذا فإنّ المجاهرة بالذّنوب وعدم الاكتراث لها هو أحد مظاهر النفاق، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم : «كلُّ أمّتي معافى إلاّ المجاهرين »، وقد يشكل على البعض هذا، إذ يظنّ أنّ المنافق هو من يخفي ذنبه لا من يظهره، وهذا غير صحيح بهذا الإطلاق، فالمنافق يخفي ما يخشى مغبّة إظهاره، فإذا كان المجتمع مؤمناً تقام فيه شريعة الله خاف إظهار ذنوبه وفجوره، وإلاّ أظهرها وكتم كفره الباطن وأخفى خلوّ قلبه من الإيمان وأظهر الإيمان، وهذا تجده في بعض كبار أهل الفجور في عصرنا ممّن يروّج للمنكر ويجاهر به، فإذا جُوبه ادّعى الإيمان والخوف من الله بقلبه وهذه شعبة من النفاق كبيرة .
وإذا كان هذا هو تعامل المنافق مع ذنوبه الّتي يقع فيها فكيف يكون تعامله مع الذنوب الّتي يجاهر بها غيره ؟ ونحن نعرف أنّ باب الأمر والنهي اشدّ من باب الامتثال فكم من صالح في نفسه لكنه لا يأمر ولا ينهى .
فالمنافق انطلاقاً من هذا يستخفّ بالمنكر الذي يقع من غيره، إمّا لعدم إيمانه الباطن، وإمّا لمرض قلبه واستخفافه بالمعصية وقوعاً فيها ورؤية لها، وهذا خلاف المؤمن الّذي يقع في المعصية فإنّه وإن ضعف ووقع في معصية فإنّه يكره وقوعها من غيره ورؤية أحد يجاهر بها، يقول أبو حامد الغزالي في الإحياء: «وأمّا الصّادق الّذي لا يرائي فله ستر المعاصي ويصحّ قصده فيه ويصحّ اغتمامه باطّلاع النّاس عليه من ثمانية أوجه» ثمّ ذكر منها : «أنّه قد علم أنّ الله يكره ظهور المعاصي ويحبّ سترها فهو وإن عصى الله بالذّنب فلم يخل قلبه من محبّة ما أحبّ الله، وهذا ينشأ من قوّة الإيمان بكراهة الله لظهور المعاصي،وأثر الصّدق فيه أن يكره ظهور الذّنب من غيره أيضاً ويغتمّ بسببه» انتهى.
وهذا المحدّد يختلف عن بغضهم لشعيرة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، فهذا نوع آخر منه يصيب كثيراً من مرضى القلوب من المسلمين، ومنهم العصرانيّون ومن تأثّر بهم من المثقّفين ودعاة الإصلاح الّذين يغضبون من وسم تصرفات بعضهم بالنفاق وهو غارق فيها حتّى أذنيه .
في السنّة للخلاّل :عن عمر بن صالح قال: قال لي أبو عبد الله أحمد بن حنبل: يا أبا حفص، يأتي على الناس زمان يكون المؤمن فيه بينهم مثل الجيفة، ويكون المنافق يشار إليه بالأصابع، فقلت: يا أبا عبد الله، وكيف يشار إلى المنافق بالأصابع؟ فقال: يا أبا حفص، صيرّوا أمر الله فضولاً، وقال: المؤمن إذا رأى أمرا بالمعروف أو نهيا عن المنكر لم يصبر حتى يأمر وينهي، يعني قالوا: هذا فُضول، قال: والمنافق كلّ شيء يراه، قال: بيده على فمه، فقالوا: نِعْم الرجل، ليس بينه وبين الفضول عمل» انتهى .
ومقصود الإمام أحمد أنّ المنافق لحرصه على ثناء النّاس عليه وقبولهم له يسكت عن إنكار المنكر حتى لا يُنبز بالفضول والتدخّل في ما لا يعنيه ، أو يصادر حريّات الآخرين ويعتدي على خصوصيّات النّاس؛كما يُقال الآن ، فانظر حولك هل ترى من هذا الصّنف أحد ؟ لا بل هل تُخطئهم عينك؟!
وعندما اراد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يحدّ حداً للمؤمن قال : «من ساءته سيئته، وسرته حسنته» فهذا هو المؤمن، تسرّه الحسنة منه ومن غيره، وتسوؤه السيئة منه ومن غيره، فهي أمارة المسلم المؤمن وحياة قلبه.
وعكس ذلك أمارة المنافق كما قال عمر : «الذي لا تسوءه سيئته ولا تسره حسنته إن عمل خيرا لم يرج من الله في ذلك ثوابا، وإن عمل شرا لم يخف من الله في ذلك الشر عقوبة»، وهذا يكون لموت قلبه أو مرضه وتبلّد إحساسه .
وإذا تأمّلت حولك وجدت هذا الأسلوب أعني التهوين من شأن المنكرات دارجاً على ألسنة واقلام كثير من رموز الليبرالية ومرضى القلوب، ولهذا لا يكاد يحتسِبُ مُحتَسِبٌ على منكَر إلاّ سمعت عبارات التهوين من شأنه، وهذه عادة العصرايين وبعض الإصلاحيين الّذين يدّعون اهتمامهم بالقضايا الكبرى، فلا يكترثون لمسائل الغناء والاختلاط والسفور والنظر للنساء وسفر النساء بلا محرم ولا لهجر المساجد ولا لغير ذلك بحجة أنّ هذه مسائل إمّا خلافية إن وجدوا لذلك سبيلاً، أو صغائر إن أعياهم المخالف، وهذا ليس دأب أهل الإيمان .
في الصّحيح في رواية قتل عمر رضي الله عنه « وجاء رجل شاب، فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك، من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقدم في الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت، ثم شهادة، قال: وددت أن ذلك كفاف لا علي ولا لي، فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض، قال: ردوا علي الغلام، قال: يا ابن أخي ارفع ثوبك، فإنه أبقى لثوبك، وأتقى لربك» .
فهذا عمر مع كلّ ما هو فيه من أمر الأمّة والقتل وتولية الخليفة لم يمنعه ذلك أن يأمر الغلام وينهاه، لأنّ قلبه قلب حيّ .
عن عمرو بن ميمون بن مهران قال :«ما كان أبي بكثير الصيام والصلاة ولكنه كان يكره أن يُعصى الله».
عن ربيع بن عتاب قال كنت أمشي مع زياد ابن جرير فسمع رجلاً يحلف بالأمانة قال فنظرت إليه وهو يبكي، قلت: ما يبكيك؟ فقال :«أما سمعتَ هذا يحلف بالأمانة ؟! فلئن تُحكّ أحشائي حتى تدمى أحبّ إليّ من أحلف بالأمانة» ، قلتُ: هكذا يفعل القلب الحيّ بصاحبه .
ومشكلة بعض هؤلاء الإصلاحيين أنّهم لا أصلحوا دنياً ولا تركوا غيرهم يصلح دينا، وإلاّ فما الّذي يمنع من الدعوة للدين ومسائله حسب الإمكان، فبعض المسائل وإن كانت كبيرة إلاّ أنّ الأمر بها غير واقعي، فهل أوقف الأمر بكل مسائل الدين حتّى يتحقق الكبير منها .
قال السّبكي تاج الدين عن والده تقيّ الدين :«ولقد قال مرّة لبعض الأمراء -وقد رأى عليه طرزاً من ذهب عريضاً على قباء حرير- : يا أمير، أليس في الثّياب الصّوف ما هو أحسن من هذا الحرير ؟ أليس في السّكندريّ ما هو أظرف من هذا الطّرز ؟ أيّ لذّة في لبس الحرير والذّهب ؟ وعلى أيّ شيء يدخل المرء جهنّم ؟ وعذله في ذلك حتّى قال الأمير : اشهد عليّ أنّي لا ألبس بعدها حريراً ولا طرزاً وقد تركت ذلك لله على يديك، فلمّا فارقه جاءه من أعرفه من الفقهاء فقال له : أمّا الطّرز فقد جوّز أبو حنيفة ما دون أربعة أصابع، وأمّا الحرير فقد أباحه فلان، وأمّا وأمّا، ورخّص له ثمّ قال : لِم لا نهى عن المُكُوس؟ لم لا نهى عن كذا وكذا ؟ وذكر ما لو نهى عنه الشّيخ الإمام أو غيره لما أفاد، وقال له : إنّما قصد إهانتك، وأن يبيّن للنّاس أنّك تعمل حراماً، فلم يخرج من عنده حتّى أعاده للحالة الأولى».
فهؤلاء الفقهاء الذين استنكروا على تقي الدين أنّه لم ينْهَ عن المكوس لماذا لم ينهوا هُم عنها ؟ إنّه نوع من التخذيل والصدّ سببه في الأساس الاستخفاف بمعصية الله ووعيده، وهذه علامة مرض القلب وشعبة من النفاق وإن ظنّ صاحبها أنّه بذلك يمارس نوعاً من فقه المقاصد والأولويّات، وهي الحجّة الّتي يتّكئ عليها المستخفون بالمنكر، لأنّ أصحاب هذه الحجّة يجب عليهم أن يقدّموا بديلاً للسكوت عن منكر مّا ، إمّا تحصيل منفعة أعظم ، أو درء منكر أكبر، وغالب سكوت هؤلاء لا ينتج عنه إلاّ مزيداً من المنكر، بل كثير منهم يصطفّ مع خلاصة المنافقين في إنكار احتساب أحد على هذا ذنب من الذنوب إمّا بحجة وجود الخلاف -ولو كان شاذاً- وإمّا بدعوى أنّ الأمر لا يستحقّ ، والواقع يشهد بذلك ويشير إلى أصحاب هذا العارض الواضح إشارة جليّة تكشف نفاقهم وتعرّي مرض قولوبهم وإن استظهروا العافية والسلامة ، والله المستعان .