المقالات

المعمار وتأصيل الإنتماء

يشكل المعمار عنصرا أساسياً في تكوين هوية المدن من خلال إرتباطه بواقع العادات والتقاليد للمكان الذي ولد ونشأ فيه معبراً عن شخصية أهله وما يميزهم عن غيرهم .
وأخص بحديثي هنا المعمار المكي العريق الذي لم نعد نجده البته سوى في المعارض والمهرجانات والتراثيات فقط ، وقد يتبادر للأذهان ان حديثي عن العمارة المكيه نوع من الترف أو المتعه ، مع العلم بأني لا أقصد الجماليات او الديكورات التراثية كما يظن البعض ، فالحقيقة ان هناك مقومات أساسية مفقودة تتعلق بمسألة الإنتماء للمكان من خلال المعمار الذي يميزه عن غيره ويجعل له هوية مستقلة .

ما دفعني للحديث عن هذا الموضوع زيارتي لمهرجان الجنادرية وما شاهدته من إقبال منقطع النظير على التراث وإعجاب كبير خاصة من قبل الشباب على ما يميز عمارة كل منطقة عن الأخرى ، مما يؤكد بأن هناك رغبة أكيدة لإستعادة العناصر المفقودة في البناء .

فجناح مكة المكرمة مثلا وبيت مكة سجل حضورا كبيراً وتهافتاً عجيباً من قبل الشباب ، وبما يشير إلى رغبتهم في العودة لهذه الهوية الأصيلة التي افتقدوها في المعمار المكي الحالي .
فلم يعد المعمار المكي الحديث يخضع لأي معايير إتمائية ، وأصبح التركيز فيه فقط على النواحي الهندسية وإتباع الأنظمة واللوائح والإشتراطات مع إغفال النواحي النفسية والفلسفية التي كانت تعبر عنها العمارة المكية القديمة والتي تؤكد عراقة وأصالة هذا المعمار وتأصيله لهوية الأسرة المكية .
فقد أصبحت العمارة المكية في عصرنا الحاضر ليست سوى كتل خرسانية صماء لا تعبر عن أي هوية ولا تشير إلى أي ثقافة شأنها شأن العمارة في أي مدينه أخرى ، على عكس ما كانت عليه في السابق من التعبير الفلسفي الذكي ، النابع من احتياجات السكان ، والذي ساهم بشكل كبير في تعزيز العلاقة الحميمية بين البيت وأهله .
فالبيت المكي القديم وما يضمه من مكونات تراثية اصيلة كالمقعد والمبيت والرواشين والمشربيات والشوابير والدهليز والأبواب والفوانيس وغير ذلك ، إضافة إلى الأثاث الذي كان يميزه عن غيره كالكوبر والسيسم والكرويت..وغيرها من المكونات التي لم توجد في أي بيت آخر سوى البيت المكي والتي عززت علاقة ذلك البيت بسكانه وأوجدت نوعا من الألفة والترابط الإنساني لم نعد نحسه ، فقد أصبحت اليوم جميع المدن مستنسخه من بعضها البعض ، ولا يوجد ما يميز أي مدينه عن الأخرى .

وما ينطبق على البيت المكي فإنه بالتأكيد ينطبق على بيوت أي مدينه أخرى ، ففي السابق كانت العمارة في مكة مثلا ليست هي نفسها في مدينة أبها ، والعمارة في أبها ليست هي العمارة في القصيم أو المنطقة الشرقية ، فلكل منطقة أهلها وسكانها الذين يتميزون عن غيرهم بعادات وتقاليد ومتطلبات ساهمت بشكل كبير في تشكيل هوية عمارتهم بما يتفق مع احتياجاتهم ومتطلباتهم .

فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا ، هو لماذا أفتقدت مدينتنا هويتها ، ولماذا أفتقد المعمار سماته المميزة وأصبحت العمارة الموجودة في الشرق هي نفسها الموجودة في الغرب ، ولماذا لا تقوم الجهات المسؤولة عن الإسكان بإعتبار خصوصية المكان وعادات وتقاليد أهله ، ولماذا لا تقوم كليات الهندسة في جامعاتنا بتصنيفات علميه تراعي من خلالها تاريخنا وحضارتنا وخصوصياتنا ؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى