همسات الخميس
مثلما كان الشاعر الشعبي الراحل محمد بن ثامرة علامة فارقة لعصره، ومثلما انطلقت من حنايا تجربته مدرسة مميزة في الشعر الشعبي فإن الشاعر المعاصر عبدالله البيضاني قد مثّل هو بدوره علامة فارقة لعصره، وانطلقت من تجربته الشعرية مدرسة مميزة حملت لواء مختلفا عما ساد منذ أزمان ابن ثامره حتى زمنه هو.
لقد اشتغل الشاعر عبدالله البيضاني على عدة إيجابيات خلال رحلته التي تابعت طرفا منها امتد على ما يزيد عن الثلاثين سنة كان فيها بكامل اناقته حاضرا في وعي المتلقي وفي محيط رؤيته وفي بؤرة اهتماماته .
ولعلي عندما أتحدث عن ايجابيتين اشتغل عليها البيضاني أكون قد اقتربت من هدفي، ذلك أن حديثي سيكون من خلال نقطتي معاينة، نقطة منها تتعلق بطبيعته الشخصية ونقطة أخرى تتعلق بطبيعة شعره، والمبدع تتجدل طبيعة سلوكه مع طبيعة ابداعه لتصنع مجده.
عرف جمهور العرضة في عبدالله البيضاني تصالحه مع نفسه، ولذلك كان التسامح يوجه علاقته بالآخرين، والآخرون في العرضة صنفان، صنف معتم وصنف شفاف، وكلاهما منافس، وقد جرت العادة منذ قرون على أن يتخذ الشاعر موقفا عدائيا صريحا مع الآخر المعتم، وموقفا حذرا مع الآخر الشفاف.
عبدالله البيضاني قد غير قواعد اللعبة العتيقة تلك مستندا الى روح التسامح التي تميزه، فكان يحاول الحذر مع الآخر المعتم، ويتبنى مقارعة الآخر الشفاف دون أن يجعل من المنافسة وزرا يثقل كاهله وكاهل غيره ودون أن يجعل من شهرته صخرة تتحطم عليها مواهب الآخرين وطموحاتهم.
هذا التغيير قد جعل البيضاني يتفرغ تماما للإبداع، ولذلك كانت محاريفه مصدر بهجة لمتابعيه، وكانت مواقفه قدوة لا لزملائه الشعراء فحسب بل ولعشاق شعره ولحضور العرضة عموما ولذلك أقول أن البيضاني قد أسس لمدرسة أخلاقية في ميادين العرضة لم تكن واضحة المعالم خلال عصور سبقت عصره.
التغيير الثاني الذي كرّس له البيضاني هو العناية الشديدة بالقافية، فشعرنا الشعبي يقوم على الحرف والمحراف والطرف والقارعة، وعلى الشاعر أن يكون منطقيا في حرفه وفي محرافه ملتزما بالقارعة، وله أن لا يكون كذلك لكن القفير ( ناقد الشعر ) لن يرحمه، فالحرف يقصد منه آخر كلمة في المحراف وتبنى على ما يعرف الان بالشقر ( كلمة القتّالِ مثلا) يشقر منها كلمات أخرى مثل ( القى التالي ) نفس الأحرف ولكن بمعنى مختلف والتمييز بينهما يتم من خلال ملاحظة اختلاف ترتيب الأحرف في الكلمتين، والمحراف يطلق على الشطر الذي ينتهي بتلك الكلمة، والطرف يطلق على المحاريف التي تشكل بدعا أو ردا بمفاهيم اليوم، والقارعة تطلق على الكلمتين المتفقتين شكلا المختلفتين معنى.
ساد قبل عصر البيضاني حالة من التساهل في شقر الكلمات، ودأب نقاد ذلك الزمان على ترصد ثلاثة معايب في الشقر، فهناك قارعة معلقة، أي متكلفه مثل قول أحدهم (هرجته تلفون(ن) كلمن ماتي) وهناك قارعة فاحمة(لا فنيات فيها مثل كلمة الوداعة مقابل كلمة الجماعة) وهناك قارعة صايفة ( شقر لا يقود لمعنى )وهناك قارعه منقوده ( تستوجب كلاما فاحشا )، ولم يكن ذلك التساهل نتيجة جهل بل هو عجز ألبسوه ثياب تعجيز السامع.
منذ عرفت ميادين العرضة عبدالله البيضاني لم تسمع منه قارعة معلقة أو فاحمة أو صائفة أو منقودة، وهذا بدوره قد ارتفع بذائقة المنافس والسامع حتى تشكلت ثقافة عامة تنفر من القوارع النشاز وتكوّن جيل من الشعراء حذا حذو البيضاني في اهتمامه بالقارعة ومنطقيتها، وهذا وجه آخر من وجوه مدرسة البيضاني في شعرنا الشعبي.
[CENTER][IMG]https://www.makkahnews.sa/contents/myuppic/050e70eacad8b6.jpg[/IMG] [/CENTER]