وهنا نجد أن القرآن يتعامل من زوايا كثيرة مع عالم النبات ذي الخلق المعجز والمعاني المتدفقة والقيم التي لا تكف عن التمخض والعطاء ، فيحدثنا ويذكرنا حيناً ، من خلال هذا العالم عن الموت والحياة والفناء والخلود،والانكماش والانتشار والتلاشي والانبعاث ،ولأن الإنسان دائمٌ النسيان فهو بحاجة إلى من يهزه بعنف ويفتح بصيرته المغلقة على الحقائق ، وما أحرى بعالم النبات في رحلته بين الحياة والموت أن يحدث الهزة المرجوة، ويعيد الذاكرة إلى الإنسان ، قال تعالى : } وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا{ [ سورة الكهف ، آية : 45 ].
وينقلنا حيناً آخر إلى ملامح الإعجاز والإبداع،تفجير الحياة من قلب التربة الميتة ، وتنويع العطاء الذي يسقى بماء واحد . قال تعالى : }أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا ۚ وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ { [ سورة فاطر ، آية : 27 ] .
وحيناً ثالثاً يحكي لنا منافع هذا العالم وتغطيته للضرورات، وأنه مادة للحياة البشرية : طعاماً، تدفئة، ولباساً، قال تعالى : }فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ { [ سورة المؤمنون ، آية : 19 ] .
ولكن القرآن لا يقف عند هذه الجوانب ،بل يتجاوزها إلى الجانب الجمالي لعالم النبات، فهو إذاً عملة ذات وجهين الضرورة والجمال،قال تعالى : } وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ { [ سورة ق ، آية : 7 ] .
ولكن هذا العالم لا ينتهي، فينتقل في مجموعات أخرى من الآيات البينات لكي يضرب به الأمثال التي تربي في النفوس العطاء والالتزام والمسؤولية والصبر والقوة 1 }فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ، وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ { [ سورة البقرة ، آية : 264-265 ] .
وأيضاً لكي يحكي لنا كذلك عن مصائر أقوام وجماعات لم تكن تحسن التعامل مع دنيا النبات ، فتحدث عن تحدي إحداها إرادة الله ( انظر سورة الكهف ، آية : 32 -44) ، وأعرضت ثانيتها عن هديه ( انظر سورة سبأ ، آية : 15-17) ، ورفضت ثالثتها الوفاء بحقه عليها بطراً وغروراً ( انظر سورة القلم ، آية : 17-33 ).
وحيناً آخر يذكر الإنسان بأنه كان هو الوسيلة التربوية الأولى التي تربي إرادته وتعده لخلافة الأرض من خلال قصة سيدنا آدم عليه السلام قال تعالى :}فدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ { [ سورة الأعراف ، آية : 22 ] .
وهكذا نلاحظ أن عالم الحياة النباتية عالم مليء بالعطاء والعبر , وأن القرآن الكريم لم يذكر النبات للحديث عنه فقط ، ولإعطاء معلومات عن تركيبه ، وإنما ذكره بهدف إظهار قيم تربوية، وبقصد تعليم الناس أساليب سلوكية تربوية (2) ( كالتربية الإيمانية ، العقلية ، الخلقية ، الجسمية ، الجمالية ) ، وذلك من خلال قصص الأقوام الذين كانوا يتعاملون مع النبات , وأيضاً بضرب الأمثال بالنبات، وأيضا من خلال أوجه الإعجاز فيه . [/JUSTIFY]