حسن شعيب
منذ تفتّحَتْ عينايَ واهتماماتي البحثيّة حولَ علماءِ البلدِ الحرام وشيخنا الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان ملءَ العيْنِ والفؤاد فيها ؛ لا تغيبُ عنّي فكرةٌ إلا طرَقَهَا ، ولا مسألةٌ إلا بيّنها ، ولا عَلَمٌ إلا وله فيه عِلّمٌ وقلَم .. فهو المتيّمُ الوَفيّ لمشايخِه علماءِ الحرم المكي الشريف ، الفخورُ بمكة فِقْهاً وفُقَهاءَ زيّنوا خريطة الفكر الديني بالبلاد ، وقادُوا مسيرتَه بين عُلماءِ الأمةِ الأئِمّةِ التي كانتْ تهْوِي بينَ أيديهِم في ظِلالِ البيْتِ المَقْصُودِ والقِبْلةِ المُرْتَضَاة .
لقد كانَ شيخُنا العالم والفقيه المكي – عضو هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية – في كل مقالاته ودراساته وكتبه ومحاضراته ومداخلاته يستحضرُ ذلك الإرْثَ المكيّ العريق في عِلْم الحرمين الشريفين ؛ لم ينسَهُ ولم يُنْكرْ فضلَ علمائه الذين كانوا مِلْء البَصِيرَةِ والنّظَر ؛ فأحبّ أنْ يُسجّل التاريخُ تلك النّهْضةَ العلميّة والفقهيّة التي عاشَها جيلٌ من العُلَماء في مكة المكرمة كانَ لهُ نَصيبٌ وافرٌ في التتلمذ بين أيديهم والنّهْل من مَعِينهم الصّافي ، ولمّا كانَ أبو سليمان شاهدَ مُعظم ذلك العصر الذهبيّ أحبّ تبليغ شهادتِهِ بصِدْقٍ وحِيَادِيّة في مُقابلِ ما نالتْهُ تلك الفترةَ من تشويهٍ أو تجْهيل !
وُلدتْ الفِكرةُ في مُحاضرةٍ ثم تطوّرَتْ إلى كتابٍ للمُؤلّف بعنوان “الحرم الشريف الجامع والجامعة” عبارة عن مقدّمة تاريخية للنهضة الفقهية في مكة المكرمة بالقرن الرابع عشر الهجري ، طبَعَه نادي مكة الأدبي الثقافي طبعةً يتيمة عام 1417هـ ، وبعد مُضي قرابة العشرين عاماً اكتملتْ تلك المقدمة كتاباً فخماً من جزأين تحت عنوان “المسجد الحرام الجامع الجامعة” مسيرة الفقه والفقهاء في مكة المشرفة بالقرن الرابع عشر الهجري .
احتوى الكتابُ على ثلاثة أقسام كبيرة تبحّر فيها المؤلف بين المسجد الحرام كجامع للعبادة ، وبينه كجامعة للتعليم والدراسة ، وبين نتاج ذلك من ازدهار في حياة الفقه والفقهاء بالبلد الحرام ، وقيادتهم للحراك العلمي والاجتماعي والثقافي للعباد وفي البلاد .. ويمكن استعراض أقسام الكتاب على النحو التالي :
1- القسم الأول بعنوان “المسجد الحرام الجامع” واشتمل على أربعة فصول في كل فصل ثلاثة مباحث وهي كالتالي :
الفصل الأول : المسجد الحرام الجامع المبارك قديماً ؛ تناول فيه الحديث عن مساحة المسجد الحرام منذ العهد النبوي حتى نهاية القرن الرابع عشر الهجري مع بيان معالمه الدينية القديمة داخل المسجد وحول صحن المطاف .
الفصل الثاني : أدبيات المقامات الأربعة ( الشافعي ، الحنفي ، المالكي ، الحنبلي ) ؛ أرّخ فيه لإنشاء المقامات حتى إزالتها ، وبيّن فيه بشكل موضوعي صُور تعدّد صلاة الجماعة للفريضة الواحدة – الذي كان سابقاً – في المسجد الحرام وموقف الفقهاء منها وآراء العلماء فيها بين المجيزين والمانعين بأسلوب علمي مُنصِف يحترمُ العلم واجتهاد علماء الإسلام الأجلاء ، ثم بيان ما انتُهيَ إليه الأمر من توحيد صلاة الجماعة بالحرم الشريف ، ويختم المؤلف هذا الفصل بمبحث جليل حول الأثر العلمي والاجتماعي لتعدد المقامات والجماعة ؛ كان درّة هذا الفصل قيمةً وثمرة .
الفصل الثالث : مرافق المسجد الحرام ( الداخلية ، والخارجية ، والمنارات ، والأبواب ) ؛ وهو فصل تاريخي حضاري تناول فيه المؤلف مرافق اندثرت بالمسجد الحرام مثل : المشايات ، الحصاوي ، الخلاوي .. وقام بتحديد مواضعها واتجاهاتها بالتفصيل ، إضافةً إلى مرافق حضارية كانت خارج المسجد الحرام حصرها في : مكتبة الحرم المكي الشريف ، وإدارة المسجد الحرام ، والميضات .. وقد استفاض المؤلف في حديثه عن أبواب المسجد الحرام ومسمياتها واتجاهاتها وما آلتْ إليه بين القديم والحديث .
الفصل الرابع : المسجد الحرام الجامع .. فعاليات ووظائف شرعية رفيعة ( الإمامة ، الخطابة ، الإفتاء ) ؛ واحتوى على عدة مباحث مهمة حول الإمامة والخطابة والفُتْيَا في المسجد الحرام ومكة المكرمة خلال النصف الأول والثاني من القرن الرابع عشر الهجري ، عدّد فيها أسماء مفاتي مكة المكرمة مقسّمين بحسب انتماءاتهم العلمية للمذاهب الفقهية الأربعة .
2- أما القسم الثاني من الكتاب فجاء تحت عنوان “المسجد الحرام الجامعة” مشتملاً على خمسة فصول كالتالي :
الفصل الأول : التنظيم العلمي بجامعة المسجد الحرام ؛ ويتناول عدة مباحث حول آليات التنظيم العلمي بجامعة المسجد الحرام ، وهيئته العلمية لاختيار المدرسين به ، إضافة إلى أوقات الدروس بالمسجد الحرام .
الفصل الثاني : الدراسات الفقهية بجامعة المسجد الحرام ؛ ويتناول التعريف بمصطلح ( الدراسات الفقهية ) ، وما كان بالمسجد الحرام من مقررات الدراسات الفقهية ، وطرائق تدريسها ، خاتماً الفصل ببيان مظاهر الاهتمام بالدراسات الفقهية لدى مدرسي المسجد الحرام .
الفصل الثالث : التدريس بجامعة المسجد الحرام ؛ ويتناول حال التدريس فيه بمطلع القرن الرابع عشر الهجري ، ثم التغيرات التي طرأت عليه في الربع الثاني من القرن الرابع عشر الهجري ، انتهاءً إلى النصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجري ، وكيف كان الجو العلمي بين مدرسي المسجد الحرام .
الفصل الرابع : جامعة المسجد الحرام في موسم الحج ؛ تناول فيه موسم الحج وما فيه من مآثر علمية وتبادل علمي عبر التعارف ، وحصول الإجازات العلمية والأسانيد العالية ، وما تميّزت به إجازات علماء الحرمين ، ودور الحج في العثور على الكتب الجديدة والمؤلفات النادرة ، وما يحصل من مذاكرات علمية بين علماء العالم الإسلامي بالحج ، وقد حدّد المؤلف قنوات الاتصال العلمي والثقافي التي تتم بمكة عبر المؤسسات العلمية مثل المدرسة الصولتية وغيرها ، وعبر المكتبات التجارية ، والمطوفين والضيافة الموسمية ، وليالي منى ، وما يوفره كل ذلك من فرص لِلّقاء بين طبقات المثقفين المكيين والحجاج والمعتمرين ، خاتماً الفصل بدور مكتبات مكة المكرمة كمعرض دولي دائم للكتاب .
الفصل الخامس : جامعة المسجد الحرام والشأن الإسلامي ؛ وتناول فيه جامعة المسجد الحرام كمصدر يقظة فكرية وسياسية في العالم الإسلامي ، وما قدمته وساطة فقهاء جامعة المسجد الحرام من دور في بعض شؤون العالم الإسلامي .
3- وفي القسم الثالث والأضخم من الكتاب المعنون “فقهاء جامعة المسجد الحرام في القرن الرابع عشر الهجري” يقدّم المؤلفُ تراجم موجزة لفقهاء المذاهب الأربعة بجامعة المسجد الحرام بلغوا 175 فقيهاً ( 62 حنفياً – 17 مالكياً – 81 شافعياً – 15 حنبلياً ) ، مع بيان ما تميزوا به من نشاط داخل البلاد وخارجها ، وما تمتعوا به من مزايا وخصائص سلوكية وفكرية ، والتعريف بجهودهم في التأليف مع التحليل لبعض مؤلفاتهم الفقهية .
وكانت خاتمة الكتاب عبارة عن نتائج في نقاط موزعة على أقسام الكتاب الثلاثة بلغت 35 نتيجة من أهمها : انتفاء التعصب المذهبي أو العِرْقي في المجتمع المكي بسبب بناء المقامات الأربعة ، واعتزاز التاريخ المكي بسلوك فقهاء المسجد الحرام وصمودهم أمام الإغراءات المادية من قبل بعض ولاة الأمر وغيرهم ، ترقّب الحكومة لطلبة الحرمين الشريفين في ملء الفراغ بمنصب القضاء والمناصب الشرعية الأخرى .
ولعلّ أهمّ ما أضافه المؤلف على هذه الطبعة من الكتاب كان في اللواحق الإحدى عشرة التي ضمّها الكتاب في جزئه الثاني وجاوزتْ صفحاتُها المِئَة مشتملةً على مقالات وأبحاث تتعلّق بموضوع الكتاب كان المؤلف قد نشرها في الصحف والمجلات ؛ تدور حول : تدريس علمي المنطق والفلك بالمسجد الحرام ، ومقارنة بين جامعة المسجد الحرام والجامعة الحديثة ، والنسيج العمراني لمكة المكرمة وأثره في في أداء العلماء ، والأسر العلمية بمكة المكرمة ؛ كل ما سبق محصورٌ في زمن واحد هو القرن الرابع عشر الهجري ، إضافة إلى لواحق أخرى كانت عبارة عن وثائق مصورة وخرائط ولوائح تنظيمية قديمة مهمّة ، وبعض القوائم الإحصائية التي أعدّها المؤلف حول حلقات التدريس ومدرسيها ومواضعها بالمسجد الحرام ، إضافةً لصور فوتوغرافية لبعض مدرسي المسجد الحرام .
والكتاب – ختاماً – سفرٌ عظيم في التأريخ للحركة العلمية بمكة المكرمة في القرن الرابع عشر الهجري ، وفيما ضمّه من وثائق وصور وإحصاءات بعضُها يُنشر لأول مرة ، ويقدّم الكتابُ خدمةً جليلة للباحثين والدارسين في التاريخ العلمي والفقهي للبلد الأمين وعلمائه مصابيح ذلك القرن المنير .
* مِن آخِرِ السّطْر :
سيظلّ شيخنا المكي الأصيل أبو سليمان من علماء وأعلام مكة والمملكة الكرام الذين ندعو الله تعالى دوماً أن يباركَ في أعمارهم وفي صحّتهم وفي أوقاتهم ، وأن يمتّعَنا الحقُّ بثمار علومهم وزكيّ فُهُومهم التي تزيدُ في إيمان المُحِبّ لهذا البلدِ الأمِين وأهلِهِ الطيبين .
——————————
#في_ضيافة_الكتاب
[/JUSTIFY]