عرف الشارع العربي على مدى تاريخه القريب والبعيد عددًا من الثورات السياسية التي لم يكن مصدرهـا الشعوب، بقدر ما كان مصدرهـا إما خارجيًا أو داخليًا مدعومـًا من الخارج. تلك الثورات التي لم تزد الشعوب العربية إلاّ تخلّفًا وظلمـًا وقهـرًا، أشد ممـا كانت عليه في سابق عهدهـا إبان عهد الاستعمـار.
هذه المعرفة الجمعية التي تكونت عبر مراحل تاريخية عديدة أعطت الشارع العربي قناعة وزادته رسوخـًا في أن الثورات كلهـا كانت مجرد قطـار يعبر من خلاله النفعيون والمتسلطون والعسكريون إلى مآرب بعيدة وموغلة في البعد عن تطلّعات الشعب العربي الكبير وهمومه وحقوقه وطموحاته السياسية والاجتمـاعية والاقتصادية وغيرها.
هذا الشعب الفقير فقرًا مدقعًا، الذي كان يطمح في عيش كريم تحوّلت حياته بفعل الثورات -التي كان أكثرهـا عسكريًا- إلى جحيم لايُطاق، كمـا أن الشارع تذمر على مدى سنوات كثيرة من ظلم وجور وقهر واستبداد لا مثيل له في تاريخ الشعوب والحضارات؛ إذ لم تعرف شعوب سابقة أو لاحقة للشعوب العربية أي مثال أو حتى شبيه لهذه السنوات العجاف التي ذاقت مرارتهـا أجيال عربية جيلًا تلو جيل.
أما الجديد في تاريخ الشارع العربي الثائر اليوم فهو الوعي الذي بدأ يترسخ في أذهان الجيل الجديد واليأس؛ إذ يتميز الجيل الجديد الناهض بعلامتين تميزه: الوعي والمعرفة التي لا يمكن خداعهـا، واليأس من الإصلاح عن طريق مؤسسات الأنظمة العربية المتغوّلة عليه.
ومع العلم واليأس في عصر العولمة برزت تيارات إصلاحية يقودهـا الشارع العربي نحو بنـاء مدني جديد بوعي حضاري ومعرفي لايعترف بالسياسية العربية التي كانت ولاتزال تخدر الشعوب بوعود جوفاء وإصلاحات هزيلة، وما الثورة التونسية الحديثة إلاّ إحدى مظاهر الوعي والإصلاح السياسي المدني الذي ضاق ذرعـًا بسنوات الظلم والاستبداد والاستئثار بالثروة.
إن الحقيقة التي يجب أن تدركهـا الأنظمة العربية بدون غرور أوتعامٍ هي أن الشارع العربي اليوم قد أصبح فاعلًا ومؤثرًا وقادرًا على تغيير جذري، وأنه من يحكم المستقبل، وهو الذي يحرك دفة الحكم، ويسيِّر دفة الإصلاحات ويوجههـا وجهته التي يريد، وأن مزيدًا من المظالم وسلب الحقوق ليس في صالح أحد، لا السياسيين الذين يحكمون الشعوب بسطوة الكبت، ولا في صالح الشارع الذي بدأ يتحرك بكل ثقة واقتدار نحو انتزاع حقوقه انتزاعـًا.
ويلحظ المراقب لتلك الحركة الجديدة التي تنمو شيئًا فشيئًا أنهـا بدأت تلفّ الجموع حولهـا بوعي وثبات، وأنهـا كالموج الهادر والزلزال الثائر الذي لايمكن الوقوف ضده أوتحويل مساره، بل هو كالبركان الذي لايمكن التنبؤ بموعد انفجاره أو لحظة ثورانه، ويمكن أن ينفجر بركانه في أي لحظة وبشكل سريع وغير متوقع، لذا على الساسة العرب أن يعوا أنهم بدؤوا يفقدون زمـام الأمور، وأن التغيير قادم لا محالة، ولكن على أكتاف الشارع العربي الناهض، وأن أي إصلاحاتٍ جوفاء أو تغيير لايمكن أن ترضى به الجموع الثائرة حتى تستوفي حقوقهـا، وتنعم بالأمن والعدالة والحرية، بما يضمن الحقوق، ويردّ المظالم، ويضمن حرية التعبير والانتخاب لأصغر مواطن عربي، إلى غير ذلك ممـا يتمناه ويأمله جيلُ الشارع العربي الجديد، جيلُ التغيير.