المقالات

صداع السياسة والدعوة

مرت الدعوة الإسلامية في العالم الإسلامي بعدة مراحل وأطوار مختلفة وتتراوح تلك المراحل بين مدٍّ وجذب مع الحكومات الإسلامية خصوصاً العربية في ظل بروز تيارات دعوية سياسية مختلفة في توجهاتهـا بين تيارات معتدلة وأخرى متشددة وناصبت بعض تلك التيارات الحكومات وضيقت عليهـا بعض الحكومات بشتى طرق التضييق وصنفتهـا ضمن معارضة سياسية علنية فاتجهت بعض تلك الجماعات الدعوية إلى تنظيمات سرية تعمل في الخفاء ومع مرور الزمن انحسرت الدعوة وتقلص دورهـا في المجتمع حيث اعتقل بعض رموزهـا وتعرضوا لشتى ألوان التنكيل الجسدي والمعنوي ومع التحولات الدولية وبروز تيارات العولمة وتبدل الخيارات المختلفة للدعوة اتجهت بعض التيارات المتشددة إلى التصحيح وإصلاح المســار بتغييرات جذرية في مناهج الدعوة ووسائلها وأساليبهـا وكان من أبرز تلك الجماعات جماعة الجهـاد الإسلامي في مصر وهي أنموذج مهم في تقييم الدعوة خصوصاً في مصر في مرحلة من أهم مراحلهـا تراجعت الدعوة عن كثير من الرؤى السياسية المتشددة واتجهت نحو التصالح مع الحكومات والتفاعل مع المجتمع بشكل متزن مدروس إذ برزت دراسات معمَّقة من رموزالجماعة وقادتهـا للفكر الدعوي القديم وممارسته على الواقع فأحدثت تحولا كبيراً في المنهج الدعوي داخلها وفي الجماعات الأخرى من الخارج مما جعلهـا أكثر اعتدالاً ومن ثم قبولاً في الوسط الدعوي والسياسي على حدٍّ سواء .

وكان من أخطاء الدعوة الجسيمة محاولة التطبيق الحرفي لمنهج الدعوة في العهد النبوي الذي كان مرحلة من مراحل الدعوة القابلة للتجديد وفق الزمان والمكان والتي فتحت مجالا للاجتهـاد حسب رؤية المجتهد لنوازل عصره ومن المناهج الدعوية التي حاولت ترسم المرحلة الدعوية في العهد النبوي ما يسمى بالدعوة السلفية التي برزت كتيارٍ دعوي يحاول محاكاة المرحلة الزمنية في العصور الأولى بحجة الأصالة وبرزت على المسرح الدعوي في العالم الإسلامي وظهرت بوضوح مع بدايات الدولة السعودية في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ وكان ينافسهـا بقوة دعوة الشيخ حسن البنا ـ رحمه الله ـ بمصر وكونت الجماعتان تياراً دعويا كبيراً كجناحين ممتدين في طول العالم الإسلامي وعرضه وتميزت الدعوة السلفية بالعناية بالتعليم كمنهج دعوي في ظل الجهل الكبير الذي عم الجزيرة العربية في تلك الفترة كما تميزت دعوةالإخوان بالتربية والحركة وتطورت بشكل ملفت للنظر وكان لهـا حضور قوي في الجامعات والمعاهد ومؤتمرات الدعوة الدولية كلا الجماعتين تعود بأصول دعوتهـا إلى الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح في محاولة للعودة إلى الجذور الأولى للدعوة الإسلامية وتأصيلهـا وبرز رواد كثر للدعوة وكتاب ومؤلفون ومحاضرون ووعاظ من مختلف الدول بثقافات ورؤى مختلفة .

اجتهدت الدعوة السلفية في عرض منهجهـا وترسيخ مفهوم العودة لزمن السلف الصالح وكانت نقطة لقاء بين السلفية ودعوة الإخوان المسلمين هي العودة لجيل الصحابة واعتماده في منهجية الدعوة وهي نفس فكرة سيد قطب ـ رحمه الله ـ في جيل قرآني فريد من كتابه معالم في الطريق وهي محور اتفاق الجماعتين مع الفروق الواضحة في منهجية الدعوة بينهمـا .

لكن كلا الجماعتين السلفية والإخوان لم تنجح في التطبيق العملي في الواقع بالعودة للجذور بشكل كامل في محاولة يائسة منهما.

مشكلة الدعوة اليوم إنهـا تفرقت بشكل كبير وتحزبت أحزاباً كثيرة ومتباينة في شكل مؤسف ومخيف وخرجت دوائر من رحم الجماعات الإسلامية تدعو للعنف بل وتنظر له قولاً وفعلاً وحملت بعض تياراتهـا السياسية السلاح أكثر من ذي قبل مما أحدث شرخاً كبيراً في منهجية الدعوة ورفضاً من المجتمع المسلم المسالم وأصبح البديل الإسلامي المعتدل محصوراً في دوائر ضيقة ومحسوباً على الأنظمة المتغولة على شعوبهـا وفي ظروف السياسة العربية وبروز تيارات

ما يسمى بالربيع العربي أصبح البديل الليبرالي متقدماً وبقوة لقيادة زمام الشعوب نحوالتحرر والإصلاح برؤية غربية مدعوماً بدول وأحزاب سياسية قوية ظهرت في الشارع العربي بديلاً للعنف الذي ظهر في صورة إسلامية مشوهة أبرزهـا الإعلام الحديث في مظاهر فجة لاتخفى على المتابع للحراك السياسي والدعوي على السواء .

إن ضحية الدعوة في العصر الحديث هو المنهج الدعوي المعتدل الذي يجمع بين الأصالة والمعاصرة ويتصالح مع الآخر سياسيا داخلياً أم خارجياً بكل هدوء وحكمة ويحاول شق طريقه في خضم إرث دعوي ضخم في أمواج التطرف والعداء والعدوان العالمي وكما إن المنهج الدعوي المعتدل ودعاته أصبحوا مرمى سهـام كثيرة ومختلفة فكذلك ذهب ضحية العنف المتمثل في جماعات إسلامية تتبنى الدعوة بكل تطرف المجتمع العربي الذي لايملك إلا أن يقف موقف المتفرج أوالباحث عن لقمة العيش بعيداً عن صداع السياسة والدعوة على السواء .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى