طَوْقُ النجاة في “ذَوْقِ الصلاة”
حسن محمد شعيب
[JUSTIFY]قبلَ أكثر من عشرين عاماً في خطبة الجمعة بمسجد “الوزّة” في مكة غابَ الخطيبُ المُفوَّه شيخنا الدكتور عبد الله حافظ ( حفظه الله ) وقد أوكلَ خطيباً لم يحضُر ! وأخذ الناسُ يلتفتُون علّهُ يأتي من قريب أو بعيد ؛ حتى تطوّعَ أحد المصلين أستاذنا الشيخ محمد فريد أبوزبيبة واعتلى المنبرَ وخطبَ جُمعتنا بخُطبة خفيفة عميقة مكتنزةً بالفوائد والدُرَر من سِيرةِ خير البشر عليه وعلى آله أزكي الصلاة والتسليم .. ومن يومِها وأنا أتابعُ بشغف ذاك الخطيب وأحضرُ خطبَهُ في مساجدِهِ التي يَخطبُ بها ؛ والتي كانَ منها خُطبتُه عن أسرار الصّلاة ومَرَاتِبِ المُصلين كما وَصَفها ابنُ القيّم الجوزيّة في أحدِ كُتبه ، ومن يومها وأنا أجتهدُ وأسألُ اللهَ أنْ يُذيقني في صَلاتي ذلكَ الحُضور القلبي بتلك الحَلاوة الإيمانيّة لعلي أنعمُ بالقَبُول وسلامةِ الوُصول لرِضا الحَق سبحانه .
وقبل أشهُر وقعتْ عينايَ على كتابٍ صغير الحجم بعنوان “ذوق الصلاة عند ابن القيّم” جمَعَ فيه مؤلفُهُ عدّة مباحث قيّمة لابن القيم الجوزية في مسألة الصلاة خلال ثلاثة مَحاور : الأول في حقيقتها وجوارحها ، والثاني في قوله تعالى : { وأقيموا الصلاة } ، والثالث في مشاهدِها التي تقرّ بها عينُ المصلّين ، وقد انتقاها مؤلفُ الكتاب د.عادل الزرقي من عدة مواضع في رسائل وكتب لابن القيم ، ووضعها في هذا الجمع الموفّق اللطيف ، وهذه الكتب هي : “الكلام على مسألة السماع” ، “الصلاة وحكم تاركها” ، “رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه”.
وقد انتظم ذلك الانتقاء مقسّماً من قبل المؤلفِ في 3 رسائل حملتْ عناوينَ جَميلة – من صُنْعِهِ – لكل فَقْرة وفِكْرة فيها :
فأما الرسالة الأولى : فحملتْ عناوينُها الرّقراقة ما يلي : حقيقة الصلاة ، الغفلة قحط ، يبوسة القلب ، مطر القلب ، جوارح الطاعة ، وافد الملك ، كرم الملك ، سبب القرب ، حتى يصلَ ابنُ القيّم فيها إلى روحانية الصلاة في كل فعل وقول من بَدْءِ الطهارةِ لها حتى التسليم الذي تعقبُه قرّةُ العيْن ورَاحةُ الصلاة ، كما يُشير مُبحراً في سرّ الراحة بالصلاة وكيف أنّ الله تعالى فصّلها على حالِ الإنسانِ بشكلٍ يُجاري واقعيّةَ خِلْقتِهِ المائلة نحو الغفلة وشُغْلِهِ بالمُلهيات في ظلّ حاجتِهِ دَوماً إلى المُذكّرات بكُنْهِ وُجُودِهِ ؛ فكانتْ همزةَ الوَصْل بينَ العبدِ وربِّهِ في أوقاتها المُتقاربَة خلال يومه ، وفي دقائق حركاتها وأقوالها بشكلٍ لو تدبّرَ فيها الإنسانُ لأيقنَ مِنّةَ اللهِ عليه ومَقامَهِ الحقيقي بين يديه .
ويبينُ ابن القيّم بأن لكل آية من آيات الفاتحة عُبودية وذوق ووَجْد يخصّها ؛ يقولُ في فاتحة الصلاة : “وليقفْ عندَ كل آيةٍ من الفاتحة ينتظرُ جوابَ ربّهِ لهُ وكأنه سمعَهُ يقول : حمَدنِي عبدي حين يقول { الحمد لله رب العالمين } ، فإذا قال : { الرحمن الرحيم } وقف لحظةً ينتظر قوله : أثنى عليّ عبدي ، فإذا قال : { مالك يوم الدين } انتظرَ قوله : مجّدني عبدي ، فإذا قال : { إياك نعبد وإياك نستعينُ } انتظر قوله : هذا بيني وبين عبدي ، فإذا قال : { اهدنا الصراط المستقيم } إلى آخره ؛ انتظر قوله : هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل “.
وفي الرسالة الثانية ينطلق ابن القيم من قوله تعالى : { وأقيموا الصلاة } مبيناً الدلالة على ارتباط الصلاةِ بإقامتها في آي القرآن الكريم ، ثم يبيّن حُظوظَ المُصلين من صلواتهم ، ويفصّل في أقوال الصلاة بَدْءاً من الاستفتاح حتى التسليم ، وتختلف الرّسالةُ هنا عن الرّسالةِ الأولى تفصيلاً وإجمالاً وإنْ كانَ التكرارُ في محتوياتها يحضرُ غالباً .
ويُختمُ الكتابُ بالرّسالة الثالثة التي يشترطُ فيها ابن القيّم للصلاة التي تقرّ بها العينُ ويستريحُ لها القلبُ ؛ أن تجمعَ ستة مَشاهِد هي : الإخلاص ، الصدق والنصح ، المتابعة والاقتداء ، الإحسان ، المنّة ، التقصير .. ثم يُفصّل في مُوجِبَاتِ تلك المشاهد ومظاهرها .
وعلى صِغَرِ الكتاب وخِفّته المقصودة حتى يكون وَجْبَة خفيفة على رُوح القرّاء الشباب ؛ كان – حسب رأيي – لابد من التّعريفِ ولو بشكلٍ مُوجَزٍ عن المُؤلف ابن القيم الجوزية ذلك العَلامَة المُتفنّن في التأليف حَدّاً جاوزَتْ فيه مُصنّفاتُهُ المِئةَ ما بين مطبوع ومخطوط ومفقود ، وهو عالمٌ صاحبُ أثرٍ تصْحِيحي مُعتدِل كبيرٍ في المَدْرسة السلفيّةِ ؛ حَقِيقٌ الترجمة لهُ بالكتاب .
والكتابُ في الجُمْلة يُفسحُ للقارئ مساحاتٍ من التأمّل في حالِهِ بصَلاتِهِ ، ويَفتحُ بابَ مُراجعةِ النّفْسِ في ذلكَ الفرْضِ المَمْزُوج بالقُرْبِ المُكْتَنِز بسَحَائِبَ من الرّحمة والسكينة والطمأنينة في حياةِ العَبْدِ لو صدَقَ مع اللهِ في الأداء .
ويظهرُ جَلياً ذلكَ النَفَسُ الصُّوفيّ الرّاقي في عِبَاراتِ وأنفاسِ الكتاب الذي غلبَ على ابن القيّم الجوزية في تسلسلِ أفكارهِ نحو دَقائقِ أسرارِ الصلاة ومقامَاتِها الرّوحيّة التي تجاوزتْ مظاهرَها الحرَكيّة بأبعادٍ رَاقية في جَمَالِ الاتّصال برَبّ العِبَاد .
* مِن آخِرِ السّطْر :
كمْ هما الحرمان الشريفان ومساجد العالم الإسلامي مليئة في رمضان بالمصلين القائمين الرّاكعين السّاجدين ؟! وكم هي عظيمة تلك النّسبة من الخشوع المُفضية إلى ذوْق راحةِ الصلاة التي نادى بها الحبيبُ بلالَ المؤهّلةِ لأن يكونَ قلبُ العبدِ محلَّ نظرِ الربّ ؛ ليحظى بالقَبُول وعظيم الأجور ؛ فما أحرى قلوبنا للحُضور ؛ لتحظى بالطمأنينة والحُبُور .
[/JUSTIFY]
————————————-
مقالات سابقة
[url]https://www.makkahnews.sa/articles.php?action=listarticles&id=46[/url]
[email]Shuaib2002@gmail.com[/email]