في مقاعد الدراسة اليومية أشياء كثيرة غريبة، تفاجَأنا بها صغارُ طلبةٍ، وكبارُ معلمين، ومع مطلع كل عام كانت هناك فصيلتان من الطلبة؛ فصيلة الأذكياء، وفصيلة الأغبياء، كما أن القسمة ذاتها تنطبق على المعلمين بين أذكياء وحمقى. يسأل المعلم الأحمق سؤالا غبيا، فيجيب الطالب إجابة بعيدة وغريبة، والأغرب أن يتجاوب الطلبة مع إشارة المعلم، فترتج فصول الدراسة بالتصفيق الحار. في غضون ثلاثين سنة، وأنا أتردد بين فصول الدراسة تلميذا ومعلمـا، لم يكن يؤلمني ويثير قلقي من تلميذ غبي، هو حصيلة أستاذ أحمق في فصول دراسية بعيدة كلَّ البعد عن البيئة التعليمية السليمة. الفراغات كثيرة بين مستوى دراسي ومستوى آخر، وفي كل مرحلة من مراحل الدراسة كانت جموع الأغبياء تتخرج الأفواج تلو الأفواج، وتتحول من مقاعد الطلبة إلى سبورة الأساتذة الأسئلة الحمقى نفسهـا تتكرر، والإجابات الغبية لا تتغير. يرن في أذني السؤال نفسه، وتحضرني الإجابة ذاتهـا مذ كنت تلميذا صغيرا، وحتى صرت أستاذا جامعيا؛ لأن شيئا لم يتغير حتى مقعدي في الفصول الابتدائية، هو نفسه مقعدي في المرحلة العليا، والسبورة هي نفسهـا. نعم، تغيرت الطبشورة فقط، أما المعلومة والبيئة والوسيلة فهي ذاتها. لذا عرفت سر تكرر سؤال أحمق وإجابة غبية.. عملية التلقين النظري التي تعودنا عليها، لم تخرج لنا جيلا جديدا مبدعا ومنتجا في واقع العمل، بل خرجت مجرد ببغاوات تكرر المعاني نفسهـا والأفكار.
مناهج التعليم نفسهـا لم تتغير.. بيئة التعلم لم تتبدل.. وسائل التدريس وأساليبه هي نفسهـا لم تتطور، فتخرجت أجيال مشوهة وغريبة نسخة طبق الأصل من سابقاتهـا. لذا، ومنذ سنين لم نسمع عن مخترع يسطع نَجمُه في سماء جامعاتنا، أو مبدع يُشار إليه بالبَنان، أو منتج يروّج لمنتجه عبر وسائل الإعلام. نعم، هناك بعض المبدعين والمفكرين والمنتجين في الأجيال الجديدة، بدأت تلفت أنظار الخارج حين لم يحفل بهـا، أو يحتفل بهـا الداخلُ. أجيال من الخريجين في مدارسنا وجامعاتنا، بنين وبنات، يستولي عليهم الخوف والقلق من مستقبل مخيف، بل مفزع في ظل دوائر الإهمال والتهميش لعقول ذكية في محيط غبي لمعلم أحمق تخرج في بيئة تعليمية متخلفة، ووسائل عَفَا عليها الزمن، ومناهج لم تطلهـا يد التبديل أو التطوير.
لما كنت بـ”تورنتو” ذكر لي طبيب سعودي أن مناهج التعليم بكليات الطب بكندا، لا يتم تطويرهـا فقط، بل تبديلهـا وتغييرُهـا كل خمس سنوات بمناهج يطلبهـا سوق العمل، وواقع العلم المتطور والمتغير بصورة مذهلة، وعلى الرغم من صعوبة الأمر، إلا أن ذلك لم يمنعهم من التحديث والتطوير المستمر، بينما واقع جامعاتنا ومدارسنا -رغم وجود الإمكانيات المادية وغيرهـا- هي نفسهـا ببناياتهـا المتهالكة، ومناهجها القديمة، وبيئتها التي تبعث على النفور، فهي بيئة طاردة وليست جاذبة، فلا يُستغرَب أن تكون مخرجاتُهـا تلميذ غبيا، وأستاذا أحمقا.