المقالات

ذكريات دمشقية (هيك صار) 1‎

في مساء دمشقي لا تغيب ذكرياته الدمشقية عن ناظري بسفح قاسيون المشع وبين الأضواء المنبعثة من حي المهاجرين كانت طفلة صغيرة تقف عند كابينة الاتصال على الشارع المجاور لشقتي صوتها المسكون بالحزن بعثر كل الأحزان في قلبي وأنا أنتظرهـا لإجراء اتصال دولي .

المحادثة انتهت بطلب الأم من ابنتهـا الصغيرة أن تستمر في العمل نظرت إلى عقارب الساعة وكانت التاسعة مساء يا الله !! لقد كانت تستأذن في العودة إلى بيتهـا دون جدوى؟!!

عادت الصغيرة والحزن يلفهـا في ليلٍ حالك إلى بسطة عليهـا أشياء لا تعدو كونهـا من سقط المتاع نسيت الاتصال وبقيت أراقبها في ذهول وحيرة كل أحزان الدنيا تكومت في صدري توجهت إليها وعرضت المساعدة بشيء من المال لكنهـا رفضت في إباء وعزة أعجبني الموقف كثيراً

ودار الحوار التالي :

ممكن أحكي معك شوي؟

أيه شو بدك ؟

بدي اعرف عندك كم سنة ؟

عشر سنين !!

وشو بتشتغلي ؟

تطلق ضحكة تهكم .

أخي انتا مو شايف شو باشتغل ؟!!

أسف قصدي ماعندك شغلة تانية ؟؟

تسترق الابتسامة من منتصف الحزن وتقول بتهكم :

وشو بدك اشتغل شايفني باقدر اعمل شي تاني .

تبعثر بيدهـا النحيلة خردوات مختلفة الأشكال والألوان : مقص لعبة صورة قديمة لسوق الحميدية خرز مناديل ورقية أشياء أخرى ..   ومع مين كنتي بتحكي ؟

مع الماما.

وشو قالتلك ؟؟

ما سمحت لي ارجع طلبت استمر بالشغل عشان ما عندنا مصاري للعشا !!

انا قلت لك خدي المصاري واشتري العشا مابدك ؟!!

أخي , بدك تشتري مني مرحبا وغير هيك مابدي منك شيء!!!

طب بابا فين ؟

أبي مات الله يرحمو من انا صغيرة وأمي شغالة عند ناس .

الله يرحمو انتي من وين جاية ؟

من مساكن برزة .

مساكن برزة من أبرز الأحياء الدمشقية الفقيرة جداً بدمشق.

بتدرسي ؟

لا. تركت الدراسة من شان اشتغل ؟!!

طيب هلاّ  الليل مابتخافي ؟؟!

لا ما بخاف وشو بدي اعمل مافيه مصاري.
يسود صمت وحزن كبير فكم عدد العرب والمسلمين الذين يموتون من التخمة فيما يموت ملايين من الجوع

وبيدٍ هزيلة تعرض لي قطعة قماش صغيرة عليهـا صورة قديمة لسوق الحميدية الشهير بدمشق.

شو رأيك هيّ بتعجبك ؟

بتعجبني كتير.

تقطع خواطري الحزينة بنبرة أكثر حزناً:

أخي بدك شي تاني  ؟

لا شكرا أنتي بدك شي ؟

شكراً عمو .

عم ضباب حميم وبدأت زخات المطر تتقاطر على وجههـا الجميل النحيل الذي اختلطت فيه مشاعر الحزن والفرح وآلاف الأسئلة الحيرى تدور في ذهني والدمع يغالبني في ليلة دمشقية باردة غريبة . هممت بالنهوض وعاد رأسهـا يلتفت للمارة في انتظار ممل طويل ودعتها والكآبة لا تودعني. ورغم الفقر والتعب إلا إن الابتسامة لا تفارقهـا .

في أمان الله .

الله معك.

لا أعرف اليوم بعد سنوات عدة أين ذهبت تلك الطفلة هل التهمتهـا الأرض تحت أنقاض البيوت المتهدمة من صناديق النظام المتفجرة أم هي مشردة في مخيمات عربية بظروف صعبة تفتقر لأبسط وسائل الحياة .

أم صارت لاجئة في دولة أوروبية تتعرض لأبشع صور العنصرية وأخطار التنصير .

أوهي الآن  متسولة في متاهات الأزمنة والأمكنة بين الأزقة المكتظة بأقدام العابرين بقلوب قاسية لا ترحم .

وهيك صار…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى