هلُّ علينا عام هجري جديد، مستصحباً في ثناياه جملة من المضامين والمعاني التي تستدعي التأمل والتفكر؛ استقاء للدروس والعبر.
إن مفهوم الهجرة ببعده الشامل يؤكد لنا أن المسلم مهاجر بطبعه، يظلُّ في هجرة دائمة إلى الله تعالى، ابتداءً من هجره للشرك بالله وكل ما يعبد من دونه سبحانه، مروراً بهجره للبدع، وانتهاء بهجره لسيء الأخلاق والسلوك؛ مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالْمُؤْمِنِ؟ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذَّنُوبَ) رواه الإمام أحمد (23958)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (الْمُسْلِمُ مَنْ سَلَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مِنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ) رواه البخاري (10).
وإحياءً لمفهوم الهجرة في حياة المسلمين ارتبط تاريخ الأمة الإسلامية بالهجرة دون غيرها بالرغم من الأحداث المهمة الكثيرة التي شهدها التاريخ الإسلامي، لتظل الهجرة هي الحدث الأبرز والأهم في تاريخ الإسلام، إن لم تكن كذلك في تاريخ البشرية كلها؛ لذلك ينبغي للمسلم أن يفتخر بالتقويم الهجري الذي يمثِّل هُويَّة هذه الأمة؛ ويعني اعتزازه بانتمائه لها واعتداده بماضيها العريق وإرثها الحافل. أما ما نراه اليوم في كثير من بلاد المسلمين من اهتمام بالتقويم الميلادي وإغفال للتقويم الهجري، فهو يدلُّ على التبعية العمياء للغرب التي تعيشها الأمة الإسلامية، إلا من رحم الله تعالى.
وإن كانت الهجرة قد توقفت بعد الفتح لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية)، فإن باب الجهاد بالسنان، والجهاد بالجَنَان، والنية التي تبلغ بالمرء أعلى المراتب مفتوحٌ إلى قيام الساعة.
ولنا في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه رضوان الله عليهم أسوة حسنة في التوكل والصبر واليقين بنصر الله جل وعلا وترك الأهل والمال والأحباب والديار في سبيل الله عزّ وجلَّ؛ مما يستدعي في أذهاننا أروع معاني التفاني والتضحية بالغالي والنفيس لأجل رفع راية هذا الدين، وصون العقيدة، والحفاظ على جماعة المسلمين.
وإن بلوغنا هذا العام الجديد لهو نعمة تستدعي شكر الله عزَّ وجلَّ أن مدَّ في آجالنا حتى نستكثر من الطاعات والقربات، ونتوب إليه سبحانه، ونجدِّد العهد على عبادته حتى يوافينا الموت؛ عملاً بقوله تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحِجْر: 99].
وإن تعاقبَ الأيام والسنين ما هو في حقيقته سوى إنذار بدنوِّ آجالنا وانقضاء أعمارنا القصيرة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تتراوح بين الستين والسبعين، وقليل من يجاوز ذلك كما في الحديث: ( أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ) رواه الحاكم (1406)، فعلى العاقل أن يكون على أتم الاستعداد للرحيل وأن يُعِدَّ العُدَّة للقاء الله تعالى، وأن يتزوَّد بزاد الإيمان والتقوى لسفر طويل، قال جلَّ من قائل: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [البقرة: 197].