مساء قاسيون مساءٌ عاطرٌ جميل عبقُ أزهاره الفواح وأنواره الساطعة لايعادلهـا عبقٌ
في الدنيا ولا شعاع وقف متسمراً ساعة متكئاً على عكازته الدمشقية يعصر ذكرياته القديمة بالمدينة العتيقة تتلألأ بين أجفانه دمعة دمشقية حرّى تسيل من عينيه التي تجول في أحياء دمشق المتهدمة تسترجع ذكريات الطفولة الجميلة من الجندي المجهول في قاسيون إلى سوق الجمعة الذي يخترق المهاجرين ويصب في ركن الدين ومن محيط المزة إلى كفرسوسة عائداً إلى البحصة والمزرعة وباب توما ودوما تداعبه ذكريات الصبا بين مدارسهـا وجوامعها سيما الجامع الأموي وجامعة دمشق يثيره عبث طفل تحت أغصان الزيتون بالغوطة الشرقية والغربية يعود أدراجه إلى سوق الحميدية ليبدأ رحلة ذكرياته عابراً الزاهرة القديمة والجديدة ليصل إلى حي اليرموك يتوقف في الحجرالأسود برهة ويعود أدراجه إلى حي الميدان الشهير حيث كان يقطن والده وهو داعية من كبار دعاتها وفضلائهـا وهناك تبدأ قصة مجاهد عرك الدعوة وعركته عاش آلامهـا وأحلامهـا بذل في سبيلهـا كل غال ورخيص من الجامع الأموي وحتى جامع الشيخ حبنكة الميداني إلى جامع زين العابدين بالميدان تضحياتها الكبيرة جعلته مهاجراً بل مهجَّراً في الأقطار انضمت إليه قوافل ملايين السوريين المهجَّرين اليوم .
تستوقفه قصة عمه الذي لم يكن له أي نشاط دعوي أو حقوقي مجرد مواطن عادي عامي فقير تجاعيد الزمانة والفقر منقوشة في وجهه ومكتوبة على جبينه .
في ليلة شتاء قارس آخر ليالي ديسمبر اقتحم الأمن السوري منزله ودون سابق إنذار قبل صلاة الفجر في تمام الثالثة ليلاً انقضوا عليه كالكلاب العاوية والذئاب المفترسة كُسر باب بيته ولم يطرق وبلا حرمة أو رحمة أو حتى إنسانية بعثر كل شيء وفتش بشكل دقيق بين صراخ زوجته وأطفاله لطمة لزوجته ورفسة لطفل رضيع لاذنب له ومن على سرير نومه سحبه رجال الأمن وقيدوه وكمموه خرجوا به دون عودة الاعتقالات الأمنية تطال سوريا كلها خصوصاً مدينة حماة بلد النواعير التي قال فيها الإرهابي رفعت الأسد سأمحو حماة من الخريطة تلك العبارة التي ترجمهـا عملياً بشار الأسد ـ الأكثر دموية وإرهاباً من أبيه وعمه ـ وذلك بمحو سوريا كلهـا من الخريطة العربية ..أسد عليَّ وفي الحروب نعامة..؟؟!!
يكفف الشيخ الدمشقي دموعه التي تسبق كلماته : أخدوه وربطوه بالسلاسل مو لابس شي إلا اللي يستر العورة ما حدا بيعرف فين راح ولا كيف صار حالو. ما حدا من عيلته بيسترجي يسأل حتى مجرد سؤال عنو وبعد ست سنين ومطالبات ورشاوي وتدخلات أصدقاء بالأمن استلمنا جثة العم ما فيها قطرة دم وحدة تلمس الجلد يتنزع بلمسة إصبع هيك التعذيب بالسجون السورية تعذيب وحشي وبربري ألوان كتير كتير صعبة اغتصاب وتهديد باغتصاب الأم أحيانا والأخت والبنت والزوجة .
عرضناه على الأطباء ما عرفوا كيف استشهد ولا الطريقة التي قتل بهـا لنا الله دفناه ومافيه أحسن من الصبر ودعوة مظلوم .
شو بدنا نعمل غير هيك .مافينا نعمل شي.الله وكيلك.
وبينا أنا أنصت للشيخ الدمشقي الوقور عبرت في ذهني فضائع النظام السوري التي حكاها لي بعضها شاب مجذوب التقيته بالمدينة المنورة في زمن ما قال كنا نساء ورجالاً محبوسين في أقبية تحت الأرض لا ماء ولا طعام ولا ضوء شمس وكدنا نموت من الجوع والعطش ودعونا الله أن يسقينا ماء فتفجر الصخر بعد ساعات من الابتهال والتضرع الدعاء والذكر المتواصل هو سبب الفرج نزل لنا ماء يكفينا للشرب والشرب فقط من أمطار غزيرة هطلت على دمشق يقول المجذوب وهو يكشف عن آثار التعذيب في رأسه ويديه وجسده :من رحمة الله أن الماء كان قليلاً لو كان غزيراً لمتنا غرقاً التصقت وجوهنا وأفواهنا بالصخر لنشرب مع صيحات شكر وبكاء لا أنسى نبرات المجذوب الذي تجده أحيانا أعقل الناس وأذكاهم وأحيانا أخرى كالمجنون جراء تعذيب وحشي في سجون سورية . مشهد بكاء أستاذي الحموي بالمرحلة الإعدادية وهو يستذكر تلك الفضائع مشهد لايمحى من ذاكرة غلام صغير لا قبل له بتحمل صورة مشهد أليم وحزين لقد بعثت فينا كل كآبات الدنيا وأحزانهـا طيلة فصل دراسي كامل. وكانت حديث عام اختفى فيه الأستاذ فجأةً حين رحل إلى سوريا دون رجعة .
أيام مظلمة وتواريخ سوداء وكئيبة للنظام السوري المحتل وفضائع يخجل التاريخ من ذكرهـا .ولازالت مشاهدها تتكرر في سمع العالم وبصره أجمع والعالم العربي المُوجَع .
صمت الشيخ الدمشقي وأطرق رأسه قليلاً وهو يروي قصة حب وحرب ومن وراء غصن زيتون دمشقي بقاسيون أشار إلى نهاية السفح هذه مقابر وشواهد تاريخية لخمسمائة مسجد ومائة مدرسة واثنتا عشر ألف نخلة ومدافن عشرات العلماء بالصالحية بهذا السفح المبارك هنا نام المقادسة وهنا بدمشق مؤسس الدولة الشامية الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان وأبو الدرداء وبلال بن رباح وزيد بن ثابت رضي الله عنهم وهند الخولانية زوجة بلال رضي الله عنهـا ورابعة رمز الورع الزهد والمحدثة المعمرة زينب بنت مكي ومسندة الشام كريمة الزبيرية وست الشام صاحبة المدرسة الشامية جللتهم المغفرة والرحمة.
هنا دمشق رمز الجهاد محرر الأقصى صلاح الدين الأيوبي ومن هنا خرج ابن النفيس والعز ابن عبدالسلام والذهبي وابن الصلاح وبدرالدين بن جماعة والسبكي وابن عساكر وابن قدامة وابن تيمية وجمال الدين القاسمي وخيرالدين الزركلي وحسن حبنكة الميداني والطنطاوي..ـ رحمهم الله ـ ومن هنا فقط .
مضت غمامة الحزن وتهلل وجهه بالسرور والبهجة مسح جبينه ولحيته ارتشف المتةـ وهي مشروب سوري ساخن ـ
أشرق ثغره بابتسامة غائمة وكان متكئاً فجلس صائحاً بأعلى صوته الذي هز أغصان أشجار الزيتون بقاسيون وتردد صداه في سمـاء دمشق ضارباً بعكازته الحمراء الدمشقية العتيقة الأرض :
هنا التاريخ ….
هنا دمشق …..
هنا التاريخ ….
هنا دمشق…..
هيك إحنا
وهيك كنا
وهيك حنرجع .
وهيك حنظل .
وهيك صار ..