مسجد شرف الروحاء بالقرب من المدينة المنورة على طريق مكة القديمة؛ هو أحد المساجد التي صلى فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين الحرمين الشريفين على طريق الأنبياء (طريق مكة – المدينة القديمة)، كما صلى فيه سبعون نبياً -عليهم الصلاة والسلام- قبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما سيأتي في الحديث الآتي. ويقع هذا المسجد بمكان يسمى شرف الروحاء، وهو واد يقع في منطقة فريش، أو السيالة على بعد حوالي ستين إلى سبعين كيلو جنوبي المدينة المنورة على طريق مكة المكرمة القديمة. ووادي الروحاء تسميه العامة اليوم بئر الراحة، وهو واد من أودية الجنة، كما أخبر بذلك سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما روي ذلك عن عمرو بن عوف المزني -رضي الله عنه- أنه قال: «غزونا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أول غزوة غزاها الأبواء، حتى إذا كنا بالروحاء، نزل بعرق الظبية، فصلى، ثم قال: هل تدرون ما اسم هذا الجبل؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا جبل من جبال الجنة، اللهم بارك فيه وبارك لأهله، وقال للروحاء: هذه سجاسج وادٍ من أودية الجنة، لقد صلى في هذا المسجد قبلي سبعون نبيا، ولقد مر به موسى -عليه السلام- عليه عباءتان قطوانيتان على ناقة ورقاء في سبعين ألفا من بني إسرائيل حاجين البيت العتيق، ولا تقوم الساعة حتى يمر به عيسى بن مريم عبد الله ورسوله؛ حاجا أو معتمرا أو يجمع الله له ذلك». رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير من طريق كثير بن عبد الله المزني، وهو ضعيف عند الجمهور، وحسن الإمام الترمذي حديثه، وبقية رجاله ثقات. وعن حنظلة الأسلمي -رضي الله عنه- قال: سمعت أبا هريرة -رضي الله عنه- يحدث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «والذي نفسي بيده، ليهلن ابن مريم بفج الروحاء حاجا أو معتمرا، أو ليثنينهما». رواه الإمام مسلم في صحيحه. وعن سيدنا أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ينزل عيسى بن مريم فيقتل الخنزير، ويمحو الصليب، وتجمع له الصلاة، ويُعطى المال حتى لا يقبل، ويضع الخراج، وينزل الروحاء، فيحج منها أو يعتمر، أو يجمعهما». رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح على شرط مسلم. وعن سيدنا عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: أنه قال: لقد سلك فج الروحاء سبعون نبيا حجاجا، عليهم ثياب الصوف، ولقد صلى في مسجد الخيف سبعون نبيا. رواه الإمام البيهقي في السنن الكبرى. وعن صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذا المسجد: روي عن موسى بن عقبة، قال: رأيت سالم بن عبد الله -أي: ابن عمر، رضي الله عنهما- يتحرَّى أماكن من الطريق، فيصلي فيها، ويحدّث أن أباه كان يصلي فيها، وأنه رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي في تلك الأمكنة. وحدثني نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه كان يصلي في تلك الأمكنة، وسألت سالما، فلا أعلمه إلا وافق نافعا في الأمكنة كلها، إلا أنهما اختلفا في مسجد بشرف الروحاء. رواه الإمام البخاري في صحيحه في: (باب المساجد التي على طرق المدينة، والمواضع التي صلى فيها النبي -صلى الله عليه وسلم-). وفيه أيضا: أن سيدنا عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- حدثه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى حيث المسجد الصغير الذي دون المسجد الذي بشرف الروحاء. وقد كان عبد الله -أي: ابن عمر رضي الله عنهما- يعلم المكان الذي كان صلى فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ثم عن يمينك حين تقوم في المسجد تصلي. وذلك المسجد على حافة الطريق اليمنى وأنت ذاهب إلى مكة، بينه وبين المسجد الأكبر رمية بحجر أو نحو ذلك. رواه الإمام البخاري في صحيحه. وقال الإمام السيد نور الدين السمهودي في تاريخه خلاصة الوفا: فيما يُعزَى إليه -صلى الله عليه وسلم- من المساجد التي صلى فيها في الأسفار والغزوات. ثم ذكر مسجد الروحاء، فقال: وقال الأسدي: وعلى ميلين من السيالة -أي: من أولها- مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقال له: مسجد الشرف، وبين السيالة والروحاء أحد عشر ميلا، وبينها وبين ملل سبعة أميال. وهي لولد الحسين بن علي وقومٍِ من قريش، وذَكر بها آبارا، قال: وعلى ميل منها عين تعرف بسويقة ناحية عن الطريق لولد عبد الله بن حسن، كثيرة الماء عذبة. وقال المطري: شرف الروحاء آخر السيالة وأنت متوجه إلى مكة، وأول السيالة إذا قطعت شرف ملل، وكانت الصخيرات -صخيرات التمام- على يمينك، وهبطت من ملل ثم رجعت عن يسارك، فاستقبلت القبلة، فهذه السيالة. وكانت قد تجددت فيها بعدَ النبي -صلى الله عليه وسلم- عيون وسكان، وكان لها وال من جهة وإلى المدينة، ولأهلها أخبار وأشعار، وبها آثار البناء. وآخرها الشرف المذكور والمسجدُ عنده، وعنده قبور قديمة كانت مدفن أهل السيالة، ثم تهبط وادي الروحاء مستقبل القبلة. ويعرف اليوم بوادي بني سالم بطن من حرب. قلت: والقبور التي عند المسجد تعرف بقبور الشهداء، ولعله لكونهم ممن قُتل ظلما من أهل البيت الذين كانوا بسويقة، كما يؤخذ مما سيأتي في ترجمتها. نتهى ما ذكرها الإمام السمهودي في خلاصته. وقال الإمام السمهودي أيضا في تاريخه وفاء الوفا: الرَّوْحاء بالفتح، ثم السكون والحاء المهملة: موضع من عمل الفرع على نحو أربعين ميلا من المدينة. وفى صحيح مسلم: على ست وثلاثين ميلا. وفى كتاب ابن شبة: على ثلاثين ميلا. وقال أبو غسان: إن ورقان بالروحاء من المدينة على أربعة برد. وقال في سبب تسميته بالروحاء: لما رجع تبع من قتال أهل المدينة نزل بالروحاء، وأقام بها وأراح، فسماها الروحاء.
وسئل كثير: لم سميت الروحاء؟ قال: لانفتاحها وروحها، ويقال: بقعة روحاء طيبة ذات راحة. انتهى. ونقل الإمام السمهودي في تاريخه الوفا عن الكلبي: أن قبر مضر بن نزار -أحد أجداد رسول الله صلى الله عليه وسلم- واقع بالروحاء. ومُضر هو ابن نزار بن معد بن عدنان، شخصية عظيمة طاهرة، وهو أبو القبائل العربية العدنانية. ولكن قبره اليوم لا يعرف هناك. ومن الأحداث النبوية الشريفة، والمعجزات التي وقعت في الروحاء ما رواها الإمام البيهقي في دلائل النبوة: عن سيدنا أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قال: «خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الحجة التي حجها، حتى إذا كنا ببطن الروحاء نظر إلى امرأة تؤمّه، فحبس راحلته، فلما دنت منه، قالت: يا رسول الله، هذا ابني، والذي بعثك بالحق، ما أفاق من يوم ولدته إلى يومه هذا. قال: فأخذه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منها، فوضعه فيما بين صدره وواسطة الرحل، ثم تفل في فِيه، وقال: اخرج يا عدو الله، فإني رسول الله، قال: ثم ناولها إياه، وقال: خذيه فلا بأس عليه. قال أسامة: فلما قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حجته انصرف، حتى إذا نزل بطن الروحاء، أتته تلك المرأة بشاة قد شوتها، فقالت: يا رسول الله، أنا أمُّ الصبي الذي لقيتك به في مبتدئك، قال: وكيف هو؟ قال: فقالت: والذي بعثك بالحق ما رابني منه شىء بعد، فقال لي: يا أسيم -وكان رسول الله إذا دعاه رخّمه- خذ منها الشاة. ثم قال: يا أسيم، ناولني ذراعها، فناولته، وكان أحب الشاة إلى رسول الله مقدمها، ثم قال يا أسيم: ناولني ذراعا، فناولته، ثم قال يا أسيم: ناولني ذراعا، فقلت: يا رسول الله، إنما هما ذراعان، وقد ناولتك، فقال: والذي نفسي بيده، لو سكتَّ ما زلتَ تناولني ذراعا ما قلت لك ناولني ذراعا. ثم قال: يا أسيم، انظر هل ترى من خَمَرٍ لِمَخَرجِ رسول الله، فقلت: يا رسول الله، قد دَحَسَ الناس الوادي فما فيه موضع، فقال: انظر هل ترى من نخل أو حجارة؟ فقلت: يا رسول الله، قد رأيت نخلات متقاربات، ورجما من حجارة، قال: انطلق إلى النخلات فقل لهن إن رسول الله يأمركن أن تدانين لمخرج رسول الله، وقل للحجارة مثل ذلك، قال: فأتيتهن، فقلت ذاك لهن. فو الذي بعثه بالحق نبيا، لقد جعلت أنظر إلى النخلات يخددن الأرض خدا، حتى اجتمعن، وأنظر إلى الحجارة يتقافزن، حتى صرن رجما خلف النخلات، فأتيته، فقلت ذاك له، قال: خذ الإداوة وانطلق، فلما قضى حاجته وانصرف، قال يا أسيم، عد إلى النخلات والحجارة، فقل لهن: إن رسول الله يأمركن أن ترجعن إلى مواضعكن». ومنها أيضا ما رواه الإمام البزار في مسنده: عن رفاعة بن يحيى الأنصاري، عن معاذ بن رفاعة، عن أبيه -رضي الله عنهم- قال: خرجت أنا وأخي خلاد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بدر على بعير لنا أعجف، حتى إذا كنا بموضع البريد الذي خلف الروحاء، برَك بنا بعيرنا، فقلنا: اللهم لك علينا لئن أديتنا إلى المدينة لننحرنه، فبينا نحن كذلك إذ مر بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «ما لكما؟» فأخبرناه أنه برك علينا، فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتوضأ، ثم بصق في وضوئه، ثم أمرنا ففتحنا له فم البعير، فصبّ في جوف البكر من وضوئه، ثم صب على رأس البكر، ثم على عنقه، ثم على حاركه، ثم على سنامه، ثم على عجزه، ثم على ذنبه، ثم قال: «اللهم احمل رافعا وخلادا»، فمضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقمنا نرتحل، فارتحلنا، فأدركنا النبي -صلى الله عليه وسلم- على رأس المنصف وبكرنا أول الركب، فلما رآنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضحك، فمضينا حتى أتينا بدرا، حتى إذا كنا قريبا من بدر برك علينا، فقلنا: الحمد لله، فنحرناه وصدّقنا بلحمه. وهذه بعض ما ورد سيرته -صلى الله عليه وسلم- في هذا الوادي. وأما مسجد شرف الروحاء فهو موجود اليوم قائمٌ البنيان، وهو مبنى بالحجارة بارتفاع مترين تقريبا، ومساحته مربعة تقدر بحدود ثلاثين ذراعا في ثلاثين مثلها، أي: خمسة عشر مترا في مثله، وبه محراب. ويعود تاريخ بنائه لقرون مضت؛ لأن البناء بناء قديم، تزيد سماكة جدرانه على المتر إلا ربعا تقريبا.
وقد قام بعض المحسنين -فيما يبدو لي منذ عقدين من الزمان- بتسقيف ثلث المسجد، مما يلي محرابه تسقيفا أسمنتيا، فبقي هكذا. ثم جاء آخرُ قريبا فحاول رفع جدار سورِه الخلفي وتسقيفه، إلا أنه عجز عن ذلك لمانع حصل له. ويدل على ذلك ما رأيته هنالك من مخلفات أسياخ الحديد، وبعض القوالب الخشبية، وذلك عندما زرته عام ألفٍ وأربعمائة وثلاثة وثلاثين من الهجرة المباركة. وأما اليوم؛ فقد جرى استهداف هذا المسجد مباشرة من قِبل شركة مقاولات تنفذ تمديد أنابيب ضخمة عابرة للمنطقة، التي لم تتحاشَ المسجد، ولم تَحسِب له حسابا، بل قامت بهدم سور المسجد كاملا إلا الرواق الأمامي المسقّف منه، وذلك من أجل مد خط الأنبوب من وسط المسجد، والمفترض أن يُحمَى مثل هذا المسجد حماية كاملة؛ لأنه بيت بيوت الله تعالى، فضلا أنه مسجد شريف نبوي، له تاريخ عريق كما سبق التعريف بتاريخه، وفضله، وشرفه. ولكنني سمعتُ من بعض النشطاء في هذا الجانب، أن مشروع خط الأنابيب الذي اكتسح المسجد، قد تم إيقافُه، وأنه يُجرَى الآن التحقيق مع المقاول حول ما أُزيل من سور المسجد. وذلك بِناءً على تحركات من هيئة السياحة والآثار، وأنه تم تكليف الشركة بإعادة بنائه، وردّه كما كان، وبالتالي إبعاد الخط الأنبوبي الذي شقّ هذا المسجدَ عنه بعيدا. فلله الحمد أن وفّق صاحب السمو الملكي رئيس هيئة الآثار، أن قام بحماية هذا المسجد التاريخي الكبير من التعرض له بسوء،
وإلى جانب هذا المسجد، تقع بئر الروحاء الشهيرة. وقد نزل عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في طريقه إلى غزوة بدر الكبرى، كما قال الحافظ عماد الدين بن كثير روايةً عن الإمام محمد بن إسحاق: ونزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سجسج، وهي بئر الروحاء، ثم ارتحل منها، حتى إذا كان منها بالمنصرف ترك طريق مكة بيسار، وسلك ذات اليمين على النازية. وقال الإمام السمهودي في تاريخه الوفا: قال الأسدي: وبالروحاء آثار لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبها قصران، وآبار كثيرة. منها بئر تُعرف بمروان عندها بركة للرشيد، وبئر لعثمان بن عفان -رضي الله تعالى عنه- عليها سانية، وسيل مائها إلى بركتها. وبئر تعرف بعمر بن عبد العزيز في وسط السوق يسنى منها في إحدى البركتين. وبئر تعرف بالواثق، وهي شر آبار المنزل، طول رشائها ستون ذراعا. انتهى كلامه. هذا ما طاب لى ذكرُه من سيرة سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بوادي شرف الروحاء، ومن فضل مسجد شرف الروحاء هذا، وتاريخه. والله تعالى أعلم. بقلم السيد ضياء محمد عطار، عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية، المدينة المنورة.
مسجد شرف الروحاء بالقرب من المدينة المنورة على طريق مكة القديمة