شمس دمشق تميل للغروب وأضواء المهاجرين تشع على المدينة كنجوم في سمـاء تتهيأ لليلة مقمرة سائق التاكسي يتجه بي من مزة جبل إلى المتحلق الجنوبي وحتى الميدان في طريقه لحي اليرموك يتوقف بي على باب أبي إبراهيم في الحجر الأسود . عشرون ليرة أجرة التاكسي ويمضي في طريقه باحثاً عن زبون آخر .
منزل أبي إبراهيم يتكون من دورين يقيم وعائلته في الدور الأرضي بشقة متواضعة . وهي تتكون من ولدين وثلاث بنات تعود أصوله إلى فلسطين من عائلة آل حلاوة بغزة وزوجته دمشقية الأصل .
ليلة دمشقية صافية طال بنا الحديث فيهـا لساعة متأخرة فهو صديق قديم سبق أن زارني بالمدينة المنورة طال حديثنا عن الحياة في دمشق الشام وأهلهـا وعاداتهـا وذكرياتي بهـا التي تعود لسنوات طويلة وتجاذبنا أطراف الحديث حول الأحداث الطارئة التي لم يكن فيهـا شيء جديد غير وفاة الأسد وتولي ابنه بشار وحديث الناس حول بكاء الشيخ البوطي عليه ؟!!
وانتهت الليلة بموعد في الصباح الباكر لرحلة إلى الغوطة .
في الثامنة صباحاً كان منزل أبي إبراهيم عامراً بزملائه في العمل حيث نظم لنا رحلة لغوطة دمشق الغربية .
تتميز الغوطة بكثافة أشجارهـا التي تغطي مدخلهـا الجميل يشعر الداخل للغوطة بهواء منعش حين دخوله الغوطة والتي ورد في فضلهـا حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (( يوم الملحمة الكبرى فسطاط المسلمين بأرض يقال لهـا الغوطة فيها مدينة يقال لهـا دمشق خير منازل المسلمين يومئذ ))
وهي سهل ممتد عبارة عن بساتين غناء من أشجار الفاكهة تعد من أخصب بقاع العالم وإحدى جنات الدنيا والغوطة عبارة عن غابة من الأشجار المثمرة وكان القدماء يعدونها من عجائب الدنيا.
اجتمع أصدقاء أبي إبراهيم في مزرعة كبيرة في الغوطة وعلى بساط أخضر كان كل واحد منهم اتخذ مكانه ودارت كاسات الشاي بيننا تحت ظلال غصون الأشجار الخضراء وتعددت أحاديثنا حول دمشق وتاريخهـا وعن العهد الجديد فيهـا ولكن بحذر شديد فالسوريون لا يتحدثون في السياسة كثيرًا خصوصاً ما يخص سوريا الرعب يبدو على الوجوه للقبضة الحديدية السورية التي عرف بهـا النظام السوري ولخوف المخبرين يقال إن في كل عائلة سورية تتكون من خمس أشخاص مخبر واحد ؟!.
ولا أعرف مدى صحة هذه المعلومة لكن هكذا انتشرت بعض الإشاعات قديماً .
التفت إلي أبو إبراهيم مستأذنا في عمل السلطة وتوجه معه بعض أصدقائه لتجهيز الغداء عمل جماعي جميل مع بعض الأغاني التي يترنم بها أحدهم .
ظهرت فجأة طفلة شقراء صغيرة سبقت جدهـا إلينا وارتمت بين يدي كعادة الأطفال معي أشار إلي أبو إبراهيم مبتسماً هل تعرف رقم هذه الطفلة بين أطفال العم كريم إنها رقم ثلاثين بلغ عدد أولاده وأحفاده الثلاثين رحب الحاج كريم بنا ترحيباً كبيرًا وخصني بتحية حارة حين عرف أني من المدينة المنورة .
تحت غصون الشجر كانت رائحة الطعام قد داعبت أنوفنا وقدم لنا أبو إبراهيم الغداء مع سلطة شامية تتكون من تبولة وحمص وفتوش وسلطة خضراء . يتميز السوريون بالسلطات اللذيذة التي عرف بهـا المطبخ السوري .
مضى اليوم جميلاً رائعاً وسهرنا للساعة الثانية عشرة ليلاً بقيت هذه الرحلة للغوطة منقوشة في ذهني كأجمل ذكرياتي بدمشق وللأسف الشديد فهذا اليوم لم يبق من الغوطة إلا ركام أشجار محروقة على بيوت متهدمة وشبه خيالات لناس معوزين وحيرى يلفهم الخوف والرعب من قذائف وبراميل متفجرة تتساقط عليهم بريف دمشق فجأة دون سابق إنذار.
أما الحجر الأسود فلم يبق منه شيء وهو حي صغير من أحياء اليرموك الذي عانى حصاراً شديداً مات فيه مئات الأطفال
من الجوع والعطش .
هرب أبو إبراهيم بزوجته وأولاده من سوريا ـ كغيره من آلاف العائلات السورية ـ إلى الأردن ولغلاء الأسعار والإيجار
في الأردن توجه إلى مصر وذلك بعد سقوط ابنه إبراهيم شهيداً بقذيفة من قذائف النظام كنت أتذكر إبراهيم شاباً وسيماً باراً بوالديه وهكذا اختار القدر أحب أبناءه إليه .
انقطعت أخبار أبي إبراهيم وعائلته ولا أعرف عنهـا شيئاً حتى اللحظة .
كل الأحياء التي زرتها بدمشق وضواحيهـا لم يتبق منهـا إلا أطلال مهدمة تفوح منهـا رائحة النار والدخان خصوصاً درعا وريف دمشق كعربين وزملكا وحرستا ودوما وداريا .
أما مخيم فلسطين وبعض أحياء دمشق فلم تسلم من قصف النظام ونشر الرعب بين سكانه وكلها تعرضت لتغيير دميوغرافي وتهجير قسري . جرحى ومرضى قتلى ودماء في كل حي وزقاق .
كل الأشياء الجميلة بدمشق تهدمت كل الذكريات الحلوة تبخرت كل شيء عرفته أحياؤهـا جوامعهـا آثارها وأزقتهـا القديمة أصبحت يباباً موحشة ومقفرة تحولت الأرض غير الأرض والسماوات غير السماوات وعم الخراب .
ومن يعرف سوريا الأمس يجزم إنهـا غير موجودة اليوم.
وهيك صار ..