مسجد سلمان الفارسي -رضي الله عنه-: هو أحد مساجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومصلياته بالمدينة المنورة على التحقيق، وهو ثاني المساجد السبعة في الخندق، وهو المسجد الذي بأسفل الجبل الذي ورد ذكره في رواية الإمام عمر بن شبة في تاريخه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا على الجبل الذي عليه مسجد الفتح، وصلى بالمسجد الصغير الذي بأصل الجبل على الطريق حتى مصعد الجبل، وروى الإمام عمر بن شبة في تاريخه أيضًا، وقال: أخبرني عبد العزيز، عن محمد بن موسى، عن عمارة بن أبي اليسر، قال: صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في المسجد الأسفل. وروى كذلك فقال: حدثنا أبو غسان، عن ابن أبي يحيى، عن الحارث بن فضل: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بدأ فصلى أسفل من الجبل يوم الأحزاب، ثم صعد فدعا على الجبل. وكل هذه الأحاديث تؤكد صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه وهو المراد في هذه الأحاديث الشريفة حسب وصفه ووصف موضعه أنه بأصل الجبل، وهو الذي على مصعد الجبل، وهو المسجد الأسفل، ومسجد الفتح هو المسجد الأعلى كما سبق. وقد ذرعه الإمام السمهودي، وذكر في تاريخه وفاء الوفا: أنه من القبلة إلى الشمال: أربعة عشر ذراعًا شافة، ومن الشرق إلى الغرب: سبعة عشر ذراعًا، قلت: وهو مبني بالحجارة المطابقة، برواق واحد ومحراب، وبه عمودان، وسقفه مسنم أفقيًّا. وتسميته باسم سيدنا سلمان الفارسي -رضي الله عنه- جاء للتعريف به فقط لا غير؛ حيث إن اسمه الأول الذي ورد في تواريخ المدينة المنورة القديمة المسجد الأسفل. وقد ذكره الشيخ عبد القدوس الأنصاري في تاريخه، فقال في هامش كتابه آثار المدينة: مسجد سلمان أقرب المساجد إلى مسجد الفتح، وفي أعلى محرابه اليوم (يقصد زمانه قبل خمسين سنة من الآن تقريبًا) حجر المسن الذي قال عنه السمهودي: إن فيه تاريخ عمارة الحسين بن أبي الهيجاء له عام (577) من الهجرة، وهذا يدل على أنه باقٍ على بناية الحسين المذكور له. والملاحظ أن شكل بنائه يخالف ما عداه من بناء هذه المساجد، ومنها مسجد الفتح، فكلها مقببة، أما مسجد سلمان فمسنم البناء، ذو أعمدة قوية قصيرة، يشهد منظرها بقدم بنائه وقوته. انتهى بنصه. قلت: ولا يزال هذا المسجد -والحمد لله تعالى- قائمًا يشهد لتاريخ المدينة المنورة وآثارها، ويمثل معلمًا من معالمها، وأثرًا من آثارها العمرانية القديمة. وبما أن بناءه قديم جدًّا، يزيد عمره على ثمانمائة وتسعة وخمسين عامًا من الآن كما سبق تأريخه؛ فبناء مثل هذا يُستحق أن يُحافظ عليه كأثر من الآثار النادرة، ناهيك عن أنه على هذا القدر من الفضل، وأنه مسجد نبوي كريم، تشرَّف بسجود المصطفى -صلى الله عليه وسلم- على ثراه، وصلاته فيه، ويُستحق أن يُسجل في سجل التراث الإسلامي عالميًّا من حيث قيمته الأثرية، ولكونه أقدم بناء ظل قائمًا بالمدينة المنورة حتى الآن؛ حيث كانت هذه آخر عمارة له عام (577) من الهجرة، وأما أول بناء له، فكان من بناء أمير المؤمنين الوليد ابن عبد الملك -رحمه الله تعالى- الذي أمر واليه على الحجاز والحرمين الشريفين، سيدنا عمر ابن عبد العزيز -رضي الله عنه- سنة (87 – 93) للهجرة: أن يبني على جميع مصليات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسجدًا. فبناه في هذه الفترة بالحجارة المطابقة، كما بنى على جميع الأماكن والمواضع التي صلى فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسجدًا بالمدينة المنورة ومكة المكرمة، وحتى مسجد تبوك المعروف بالتوبة هناك، بخلاف من يقول: إن هذا المسجد وإخوته بالخندق، إنما هي من بناء العبيديين الشيعة وإحداثاتهم، وهو كلام يجانب حقيقة تاريخ هذه المساجد وفضلها ومكانتها. وأما الحجر المسن الذي ذكره الشيخ عبد القدوس الأنصاري في تاريخه المثبت على محرابه، فغير موجود الساعة، وها هي صورته اليوم، وقد تصدع جداره القبلي من شطر المحراب عموديًّا، بفعل الدكات التي وقعت أثناء كسر جزء من الجبل المجاور له قبل نحو ثماني سنوات مضت؛ الأمر الذي يُنتظر تداركه، وإعادة ترميمه قبل أن يتساقط، ثم نخسر مثل هذا الأثر الكبير، الذي يعد من أهم الآثار التاريخية، التي تسعى حكومة خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود -رعاه الله- إلى المحافظة عليها وترميمها، وتأهيلها وتنشيطها، والتعريف بها للزوار والسياح، ممثلة في هيئة السياحة والآثار، التي يرأسها صاحب السمو الملكي، الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز -حفظه الله- والتي تسعى لإعادة تأهيل تاريخ المملكة العربية السعودية الأثري، ولا سيما مثل هذه المساجد التي تعد تاريخًا نبويًّا كريمًا، وأثرًا إسلاميًّا جليلًا، وشاهدًا عمرانيًّا عريقًا. والله الموفِّق وهو الهادي إلى سواء السبيل. بقلم: ضياء محمد مقبول عطار، كاتب وباحث في تاريخ الحرمين الشريفين، عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية، المدينة المنورة. صورة لمسجد سيدنا سلمان من داخله ويبدو فيها محرابه وأسطواناته
0