إن المدينة المنورة حرم حرمها الله تعالى، وأظهر حرمتها على لسان سيد الكائنات صلى الله عليه وسلم، فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “إنَّ إبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ، مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا لَا يُعْضَدُ عِضَاهُهَا وَلَا يُصَادُ صَيْدُهَا” رواه الإمام مسلم في صحيحه عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضى الله عنه. وهي مدينة تاريخية عريقة، وبلدة تراثية عتيقة، ومنازل حضارية سحيقة. وكانت في الجاهلية تسمى الغلبة، وقد اشتق لها هذا الاسم لغلبة اليهود فيها على العماليق الذين كانوا قد سكنوها قبل آلاف السنين. فقد نقل الإمام السمهودى في تاريخه الوفا عن الإمام ابن زبالة المخزومى ما حاصله : أن ممن كان يسكن المدينة مع اليهود من العرب قبل نزول الأنصار: بنو أنيف حيّ من بلى، ويقال إنهم بقية من العماليق، وبنو مزيد من بلى، وبنو معاوية بن الحارث بن بهثة بن سليم. وبنو الجدماء حيّ من اليمن، ولبني أنيف بقباء آطام عند بئر عذق، وهناك أيضًا وحتى اليوم مسجدهم الذى صلى فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا يزال قائمًا مهجورًا، ولبني أنيف المال الذي يقال له القائم وغيرهما، ولذلك قال شاعرهم: ولو نطقت يومًا قباء لخبرت * بأنا نزلنا قبل عاد وتبع وآطامنا عادية مشمخرة * تلوح فتنكى من يعادي وتمنع ثم نزل عليهم في المدينة اليهود في جملة من بني إسرائيل، فنشأ منهم بنو قريظة، وبنو النضير، وبنو قينقاع وغيرهم من اليهود .. ثم نزلت عليهم قبائل الأنصار وهم الأوس والخزرج؛ وذلك قبل الإسلام بنحو خمسمائة عام أو أكثر، وأذكر أنني رأيت في بعض الأقوال أن تاريخ نزولهم على المدينة يمتد إلى ألف سنة تقريبًا قبل الإسلام. وهكذا عاشت المدينة المنورة قبل الإسلام، وكانت أرضًا خصبة زراعية ذات نخيل، وكان أهلها أهل زراعة وفلاحة. فجاء الإسلام، ونزل عليهم سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونزل معه المهاجرون من قريش وغيرهم، فعلًا شأنها على جميع القرى، وطاب هواؤها في جميع الورى، وكثر غرسها ونخيلها، وعذب ماؤها وثمارها وسطع نورها ونوارها، وكرم أهلها ذوقًا وآدابًا، فظهرت على البلاد جميعها بحبيب الله سيدنا محمد المصطفى -صلى الله عليه وسلم- حينما سكنها. ولله در من قال: فاقت الدنيا سناء وسنى * بحبيب الله خير الخلق طه وسميت كذلك قبة الإسلام فيما رواه الإمام الطبراني في المعجم الأوسط عن سيدنا أبي هريرة رضى الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الْمَدِينَةُ قُبَّةُ الإِسْلامِ ، وَدَارُ الإِيمَانِ ، وَأَرْضُ الْهِجْرَةِ ، وَمُبَوَّأُ الْحَلالِ وَالْحَرَامِ ” . وطهرها الله تبارك وتعالى وسماها طابة. وسمى أهلها من الأوس والخزرج، الأنصار، لإيوائهم ونصرتهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال الله تعالى (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا)(الأنفال:74) وقيل لسيدنا أنس بن مالك الأنصاري رضى الله عنه: أرأيتم، اسم الأنصار، أكنتم تسمون به، أم سماكم الله ؟ قال: بل سمانا الله، رواه الإمام البخاري في صحيحه . وهكذا طبع الله عليها الهدوء والسكينة، فأضفت عليها أنوار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نورًا وإشراقًا، وهدوءًا واستقرارًا، فامتلأت كل زاوية منها من نوره نورًا ويمنًا، وسكينة وإيمانًا. ولا تزال كذلك يشعر بها من سكنها ممن فاز بمجاورة صاحبها -صلى الله عليه وسلم-. و كذلك يشهد لها بذلك كل من دخلها أو زارها؛ لأنه لا يخلو من دخلها إلا أن يبوح بشعوره فيها بالسكينة والطمأنينة والأمان، والهدوء والراحة، فما هي إلا لوجود سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجثمانه الطاهرة فيها، وهى دار الإيمان، ودار الهجرة، وكيف لا وهي مأرز الإيمان، فقد قال حبيبنا -صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ الإِيْمَانَ لَيَأْرِزُ إلى المدينَةِ كمَا تَأْرِزُ الحَيَّةُ إلى جُحْرِها”. ولفضلها وشرفها أبت الانجراف وراء زخرفة الحياة الدنيا بتواضع تخطيطها، وزهد أهلها فى مغريات الحياة، فرضوا فيها بالقليل اليسير من العيش الكفاف، احتسابًا على الله –عزوجل- ثوابه لقاء صبرهم، ورجاء لموعود رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي قال:(الْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ، لَا يَدَعُهَا أَحَدٌ رَغْبَةً عَنْهَا إِلَّا أَبْدَلَ اللَّهُ فِيهَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ ، وَلَا يَثْبُتُ أَحَدٌ عَلَى لَأْوَائِهَا وَجَهْدِهَا إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا أَوْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ). رواه الإمام مسلم في صحيحه عن عامر بن سعد عن أبيه -رضى الله عنهم-. ويكفي للمؤمن أمانًا قوله صلوات الله عليه: تفتح اليمن، فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وتفتح الشام، فيأتي قوم يبسون، فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وتفتح العراق، فيأتي قوم يبسون، فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون. رواه الإمام البخاري في صحيحه عن سفيان بن أبي زهير -رضي الله عنه-. ومن المعلوم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما أراد بناء مسجده المبارك، جاءه نفر من الأنصار يقترحون عليه نمط حصون الشام وأبنيتها، فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسل-: لا، ولكن عريش كعريش موسى، والأمر أعجل من ذلك. وعلى هذا الأساس نشأت المدينة المنورة متواضعة مستكينة، كبلدة ومدينة، بحاراتها وأحواشها، وطرقاتها وأزقتها الضيقة، حتى أن الرجل كان ليلصق بصاحبه عند المرور فى بعض أزقتها لضيقها، فسمي ذلك الزقاق (زقاق عانقني)، ولكنها مع ذلك عاشت بروح الإيمان، وعزائم الوجدان، وأخلاق سيد ولد عدنان. فقال القائل من الأدباء : ما غوطة الشام ما نهر الأبلة ما * حمراء غرناطة ما مصر ما اليمن أبعد روضتها الغناء وقبتها الخضـ * راء يحلو لعينى مسلم وطن كل المنى في رحاب المصطفى جمعت * دينا ودنيا فما في مثلها ثمن ولذلك تحتاج المدينة المنورة إلى مراجعة دقيقة في تطويرها وتجديدها، وإلى دراسة عميقة ومتأنية في مشاريعها ونهضتها. ويجب أن تخضع المشروعات التنموية والتخطيطات العمرانية لموازين الحفاظ على آثارها ومساجدها وتاريخها، لا أن تخضع آثارها ومساجدها وتاريخها لمجريات التحديث العشوائى. ولا سيما فقد ورد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أنه نهى عن هدم قلاعها، أو مبانيها الرمزية، فيما رواه الإمام البيهقي في معرفة السنن والآثار عن سيدنا أبي هريرة -رضى الله عنه- قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن هدم آطام المدينة، وقال: إنها زينة المدينة. قال أحمد: والنهي عندنا على التحريم حتى تقوم دلالة بأنه على التنزيه دون التحريم. ومن هذا المنطلق أحببت أن أطرح فكرة أردت من خلالها أن تُعاد للمدينة المنورة بعضًا من صبغتها القديمة، وشيئًا من نمطها التاريخي والتراثي والعمراني، ولا سيما لمحيط الحرم النبوي الشريف مما فقدتها بسبب الهدميات العشوائية التى طالتها. وأرجو أن تُعاد إعمار محيط المسجد النبوي الشريف بعد هدم الأبراج الحالية على مساحة لا تزيد علي خمسمائة متر أفقيًا، بمبانٍ وبيوت تحمل طابعًا أثريًا مدنيًا، ونمطًا عمرانيًا تاريخيًا، ولكن تجمع بين أصالة التاريخ المدنى وبين النهضة العمرانية التى تشتمل على وسائل التطوير الحديث خدميًا من حيث الإضاءة والتكييف والخدمات. وأن تكون ارتفاع المبانى في تلك المساحة التاريخية لا يزيد عن سطح الحرم الشريف أي ببما لا يزيد على الخمسة طوابق أو أربعة طوابق حتى لا تشكل حاجبًا للحرم الشريف عن الأنظار، وأن تعطى نمط الصورة الحقيقية لبيوت المدينة المنورة القديمة والتاريخية. وأن تتخلل هذه البيوت والمباني التاريخية أزقة وشوارع متعرجة يتم رصفها بالحجارة المسطحة. وأن تكون بينها أحياء وأسواق علي غرار الأسواق القديمة، وأن تكون نوافذها وأبوابها وشرفاتها بالخشب الجيد والرواشين. ولا مانع أن تخلل بين هذه الحواري التاريخية بنايات وأبراج فندقية جديدة، ولكن على مسافات متباعدة وبأدوار متفاوتة هنا وهناك. وأن يتم إعمار المنطقة التى من وراء المنطقة التاريخية بالأبراج والمباني الحديثة والتطويرية كما هو مقرر، ولكن بتخطيط متدرج، بمعنى أنها كلما بعدت عن الأحياء التاريخية كلما علا ارتفاعها، مع الأخذ في الاعتبار عدم جعلها صفوفًا متراصة تُشكل حاجبًا للحرم الشريف وللقبة الخضراء المنيفة سقف بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- من قريب أو من بعيد. وبحيث يكون بين كل برج وبرج مساحات متباعدة تسمح الرؤية للناظرين، وبما أن هدفي من هذه الفكرة فيما أعتقد: أن تستعيد المدينة المنورة بعضًا من تاريخها العمراني والأثرى ولو بشكل محدود، وأن تزول تلك الأبراج التجارية عن محيط مسجد سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويمكن للقادم من خارجها وكذلك لأبنائها استذكار المدينة المنورة قديمًا كيف كانت. وهذه الفكرة السريعة المتواضعة أضعها لدراستها، وهى ما تسعى إليه حكومة خادم الحرمين الشريفين -رعاه الله- ويمثلها هيئة السياحة والآثار بقيادة صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود -حفظه الله -. وأرجو أن تحسب هذه الفكرة وإمضاؤها ذكرًا حسنًا لسيدى خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- على كل لسان على مدى الأيام والأزمان في إعادة المدينة التاريخية حول مسجد سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولو على مساحات رمزية بعدما أزيلت، ويكون ذلك مقرونًا بتوسعته التاريخية. والله من وراء القصد. وللعلم فأنني تشرفت بتقديم هذا المقترح خطيًا لصاحب السمو الملكي أميرنا الغالي الدكتور الأمير فيصل بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود أمير منطقة المدينة المنورة -حفظه الله- منذ سنة تقريبا.
——————————————————–
كاتب وباحث في تاريخ الحرمين الشريفين
عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية