يعد التعليم الركيزة الأساسية لأي مجتمع، فبالعلم تنهض الأمم ، وبغيره يحل ستار التخلف والجهل ، وقد دأبت حكومتنا الرشيدة على الاستثمار الأمثل في العقول منذ النشأة ، وقد وعينا على تعليم قاسٍ بعض الشيء ، وهذه القسوة أكسبت البلد جيلًا يعتمد عليه ، جيلًا كان يقوم بواجباته تُجاه مدرسته ومجتمعه ، لا يؤجل أعماله ولا يوكلها إلى أحد ، ولعلنا نعود بالذاكرة قليلًا لكي نحِنُّ إلى عبق الماضي . كنّا في مدارسنا -في القرية -نكثر الأسئلة صبيحة كل يوم جديد في عام جديد عن استلام الكتب ، وكنّا نتسابق لمعرفة اسم الأستاذ الجديد ، فالطالب المحظوظ هو من يبادر بسؤال الأستاذ عن اسمه لكي يباهي بها أقرانه بأنه فارس الميدان ؛ بل من يستطيع إدخال السرور على المعلم فيبتسم ابتسامة له فقد فاز ، كنّا نهتم بكل شيء ، كنّا نحرص على جلب مستلزماتنا كاملة من أقلام ودفاتر وغيرها لأنها تُشرى لمرة واحدة في العام الدراسي ، كنّا نحرص على الكتابة على كل سطر حتى لا نبذّر ، كنّا نغتبط ونبتهج بلبس الزي الرياضي الذي توزعه وزارة المعارف آنذاك فيطول أو يقصر ، كنّا نطير فرحًا وشوقًا كي نَشْتَمَّ تلك الروائح المنبعثة من الشيء الجديد ؛ سواءً الدفاتر أو الكتب المطبوعة طباعة حارّة تكاد تشبه روائح الشواء على جوع ، كنّا نفحصها قراءةً وتأملًا من الدرس الأول إلى الأخير ، كنّا نتجوّل في المقررات بحثًا ونقدًا ، وكان ذلك النقاش يدور في المقر الدائم للنقاش طاولة “الدافور مصطفى ” لكي يخرج كل واحد برؤية نقدية ، أو لعله يكتشف خطأً في ترقيم صفحات أو حركات أو سكنات، كنّا نهتم بنظافة أماكننا ، كنّا نعدّ الذهاب للمكتبة عيدًا حلّ قبل آوانه ، كنّا نعشق القيام من أماكننا داخل الصف لكي نبري قلم الرصاص في حاوية عبارة عن كرتون برتقال مصري أبو صرّة ، كنّا نتسابق على جلب الطبشور الأبيض والملوّن من غرفة المدرسين ، كنّا نخجل عندما ندخل غرفتهم لحاجة ما، ونحس أن الأنظار مسلطة علينا ، كنّا نستلذ بالدرس على أنغام ماكينة الماء “الماطور السطحي” أو ” أبو دمغة “، كنّا نصل حدّ التخدير عندما تنبعث علينا روائح التونة والبيض المقلي والشكشوكة من غرفة الطهي الخاصة بالمدرسين ، وكذلك صوت الملعقة التي تقلب الطعام المطهو ، كانت أمعاء أحدنا تتقلب مع كل صوت يصدر فيخدر ، كنّا نبتهج بقدوم المفتش ، ذلك الرجل البدين الذي تعلو عينيه نظارةٌ ، كنّا نخاف الأطباء – الدمرجي – عندما يأتي للقرية لكي يتفقد وضع البلهارسيا والدودة الشريطية ، فيهوي بإبرته المشؤومة – الشرنقة- على المؤخرة فيتركها متورمة جراء صنيعه ، كنّا نعشق الفسحة حدّ الثمالة لأنها تجبر بخاطر المعدة الخاوية ، كنّا بلا شك طلاب معرفة وعلم نكدّ ونكدح لكي نلتحق بالجامعة ، كل ذلك كان ديدننا في القرية أو في المدينة ، ولكن انظروا إلى حال الطلاب اليوم واحكموا. تغيّر الحال بالحال الأسوأ ، فكل عام يمضي يأتي بنسخة جديدة من الطلاب فاقدي الوعي والمسؤولية ، لا اهتمام بالدراسة ولا خلفية للاحترام والأدب ، جيل طائش إلّا من رحم ربي، جيل قدم للمدرسة بلا أدوات معنوية ولا حسية لكي يمضي سويعات ويخرج لا همّ له بالدراسة ولا العلم ، لا يستمع لنصيحة ولا يستجيب لزجر ، لا أبالغ إذا قلتُ لكم : إن الطالب يمرّ عليه العام الدراسي وهو لا يعرف اسم معلّم المادة ، ينقضي الفصل الدراسي والطالب لم يكتب في دفتره بضع ورقات ، هذا بالنسبة للمدارس ، أمّا الجامعات فحدث عنها ولا حرج . اعتدنا أن نرى العلك ” اللبان” في المدارس ، وكذلك بعض القصات والتخليعات والتقليعات ، لكن أن تصل للجامعات فهذه الكارثة ، باديء الأمر لم أصدق ما سمعت ، حتى حكى لي أحد الأكاديميين أن الجامعات أصبحت نسخة ثانية من المدارس ، والسبب يكمن في عدم خلع الطالب عباءة المدرسة عندما قبل في الجامعة ، لذلك لم يتغير شيء، الطالب الذي كان يمارس سلوكًا مشينًا من التصفير وأكل العلك والمداخلات غير المفيدة ، هو ذلك الطالب انتقل -بسلامته- إلى الجامعة بسلوكه ولبانه وتصفيره . شيء مهول أن تصفّر في قاعة دراسية وتلوك العلك أمام عضو هيئة تدريس ، أنا لا أصدق ذلك ، كيف لهم الجرأة ؟ ومن أين اكتسبوها ؟ يا للعجب كانت فرائصنا ترتعد عندما يكفهر الدكتور ، وكنّا نخطب ودّه ولا نعصيه، وسمعنا قصصًا كثيرة ومثيرة عن حمل الطلاب للمواد لمجرّد أن عطس أحدهم فضجت القاعة، أو سقط القلم من يد الطالب فأحدث صريرًا، كل ذلك يدل على حرصنا على التعلم والتأدب ، ولا نسمح لأي طالب أن يعكر صفو محاضرتنا ؛ بل مَنْ نراه لا يرغب في المحاضرة ننفيه كما ينفي الكير خبث الحديد ، والآن الطالب يصول ويجول من المدارس إلى الجامعات ولا رقيب ولا حسيب ، إهمال وتأخر حتى البحث يقوم به “سعات البيه “من أقرب مكتبة والبركة في العم ” قوقل” نفع الله بعلمه .
3
جزاك الله خيرا د نايف أوجزت فأفدت و اعدتنا لذكريات الجميل الذي ينظر لمعلمة نظرة إحترام و حب تقدير. جيل المستقبل نتمنى له أن يكون على قدر المسئولية جيل الأمل و البناء التي ننتظرهما لن تنفعهم ثقافة الأغاني و الكرة و أتباع الغرب فيما لا ينفع نسأل الله تعالى الهداية و التوفيق
الله مااروعك يا دكتور وماروع تفاصيل حياتنا المدرسيه قديما والله كل وصف وصفته عن دراسننا وحياتنا مع المعلمين بهذه الدقه والروعه في التصوير الذي اعادني اربعين سنه لتلك الحياه الجميله البسيطه بجمال وبساطة اسلويك وهنا لايسعني ان اقدم جزيل الشكرلهذه الذايقه في اختيار المواضيع والكلمات التي تلامس قلوبنا وتعالج جراحنا في التعليم اليوم .
اسمح لي سيدي الكريم ان انسخ هذا المقال لانشره في صفحاتي المتواضعه.وهذا والله شرف لي حفظك الله والى الامام
اخوك عبدالله عطيه المالكي
سلمت أناملك يا دكتور ، جمعت بين دقة الوصف وجودة التعبير وأرجعتنا إلى الزمن الجميل ( الجميل رغم التقشّف )
ولا نغفل عن زبدة المقال والغاية من كتابته
واختصر القول في قصيدة أمير الشعراء :
قم للمعلم وفّه التبجيلا .. كاد المعلم أن يكون رسولا
إلى أن يقول :
يـــــا أَرضُ مُـــــذ فَـــقَــدَ الــمُـعَـلِّـمُ نَــفـسَـهُ
بَــيــنَ الــشُـمـوسِ وَبَــيـنَ شَــرقِـكِ حــيـلا
ذَهَـــبَ الَّــذيـنَ حَــمَـوا حَـقـيقَةَ عِـلـمِهِم
وَاِســتَــعــذَبـوا فـــيــهــا الـــعَـــذابَ وَبـــيـــلا
فـــــي عـــالَــمٍ صَـــحِــبَ الــحَـيـاةَ مُــقَـيَّـداً
بِــــالــــفَـــردِ مَــــخـــزومـــاً بِــــــــــهِ مَــــغـــلـــولا
صَــرَعَـتـهُ دُنــيــا الـمُـسـتَبِدِّ كَــمـا هَـــوَت
مِـــن ضَــربَـةِ الـشَـمسِ الــرُؤوسُ ذُهــولا