المجتمعات لا تزال حافظة في مدونتها الثقافيّة حالة الرق والاستعباد، حتى وإن تظاهرت بمساواتها بين الطبقتين البيضاء والسوداء في تعاملاتها اليوميّة، إلا أنها في الأزمات لا تلبث أن تكشف عن مخالبها؛ لتمارس قبحياتها المستترة وتبدأ بنهش الأجساد السمراء نهشًا لفظيًّا يكرّس مفهوم العبوديّة من جديد. ومع وجود شبكات التواصل الاجتماعي بات بإمكان الأنساق المضمرة أن تجد طريقها بسهولة للخروج إلى السطح في ظل ما تمنحه تلك الشبكات لأفراد المجتمع من إمكانات التخفّي الهووي وراء معرّفات تفرض العتمة، وتجعل من اجترار ما تختزله الثقافة من عنصريّة وإقصاء فخرًا وشجاعة تنال مباركة جمع ليس بالقليل ممن تستحوذ الموروثات الثقافيّة المتخلّفة على عقولهم. حالة الشيخ عادل الكلباني (المنتمي للطبقة السوداء) في موقع التواصل الاجتماعي “تويتر” أظهر تغلغل فكرة الاستعباد في جسد المجتمع، وتحديدًا في الظرف الذي يتعارض فيه رأي الكلباني والآراء الأخرى. في مثل هذه الحالات يبدأ المخزون الثقافي باستدعاء قول المتنبي: “لا تشتري العبد إلا والعصا معه”، دون أن يستدعي قول الرسول المصطفى- صلى الله عليه وسلم-: “لا فرق بين عربي ولا أعجمي ولا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى”، واختيار الذاكرة للنص المستدعى يكشف عن آليّة تحركات الثقافة داخل المجتمعات وتفضح قوّة المدونة الشعريّة وتفوقها حتى على النصّ المقدس والديني، إذ تسود النصوص الدينية في ظرفيّة التوافق في حين يُضرب بها عرض الحائط عند الخصومة والاختلاف. والذاكرة الثقافية المزدرية للطبقة السوداء في المجتمع ليست حكرًا على فئة دون غيرها، حتى المتدينين يعارضون نصوصًا شرعيّة في سبيل الانتصار للمدونة الثقافية، كحال الشيخ محسن المطيري الذي قال في إحدى ردوده على الكلباني: ”كنا نأخذك بلطف لعلك تعود وترجع ..لكن لعلنا نطبق بيت الشعر الآمر بحمل العصا”؛ قاصدًا بذلك ما ذكرناه من قول المتبني آنفًا، والحالة هذه توضّح مراوغة الثقافة وسيطرتها على مختلف الفئات في المجتمع سواء أكانت فئة أميّة جاهلة بالنصوص الشرعيّة والعلميّة أو فئة تحمل صفة (الشيخ)، وتلقت تعليمًا شرعيًّا وعلى يد كبار العلماء. والناقد لسيرورة الأنساق الثقافيّة في المجتمع السعودي يجد نفسه أمام سؤال جوهري: ماذا لو كان الشيخ الكلباني أبيضًا؟! وما الاجترار النصوصي الذي سيستدعيه خصومه من المخزون الثقافي عندما يتعارض رأيه مع آرائهم؟ المدونة الثقافية العربيّة لا تحمل أية سمات سلبيّة تجاه اللون الأبيض إطلاقًا، وحتى إن أخطأ الأبيض سواء أكان عربيدًا أو شيخًا فإنها تتجه إلى استدعاء النصوص الآمرة بالتسامح والتماس الأعذار للآخرين، أمّا إن كان المخطئ أسودًا فإن الثقافة ترفض مسامحته، ولا تقبل إلا بتنفيذ حكم المتنبي عليه باستخدام العصا كحالة الكلباني، ولو كان أبيضًا لقيل له: أخطأ شيخنا غفر الله لزلته.
*ماجستير في النقد والنظرية
العنصرية متجذره في النفوس العربية