المقالات

من وحي المسقط

  •  “لكلّ منّا مسقط رأس، هاهنا حوار تخيّلي بين الكاتب ومسقط رأسه، لنرى من سينتصر في النهاية” ! – لله أنتِ، لم أركِ سابقا بهذا الشحوب والجفاف، فماذا حلّ بك؟! – وما الجديد؟! – كنتُ حينما أحضر إليك تلفّينني بجدائل خضراء زاهية في كلّ مكان، وكان البهاء والصفاء يشعّ من بين جنباتك، فما الذي حدث؟! لم تردّ عليه، فأكمل: – هنا كنتُ أقضي طفولتي المفعمة بكلّ ألوان الطيف، وهناك كنتُ أحتمي من زخّات المطر والبرَدِ أحيانا كثيرة، وفي ذلك الكوخ السحري (العشّة*) كانت كلّ أحلامنا التي نرسمها انتظارا لغدٍ أجمل.. من ذلك النبع الذي يشبهه الكثير كان ارتواءنا، ومن تلك (الحبلة*) البيضاء، الجميلة شكلا اللذيذة طعما، أو رفيقتها (السوداء)، اللذيذة شكلا الجميلة طعما، كان شبعُنا، وتحت جارتهما (اللوزة) المعمّرة كان منتجعنا، فأين ذهبتا؟! ، وأين ذهبت جارتهما؟! ، ولمَ جفّ ذلك النبع وأشباهه؟! ردّت أخيرا بتثاقل: – أنتم السب… – يالجفاء الكلمات، بعد جفاف المساحات، أنحن السبب؟!. أستحلفك بالذي دحاكِ وسطحَكِ ونصَبَ جبالك أنحن السبب؟!. كنّا نتخذك فراشا، وسماءك غطاء ، وكانت مواهبنا تتخّذ تربتكِ “مرسما” ولوحة وألوانا لرسم آمالنا، وحقولكِ “مسرحا” لعرضِ رؤيتنا وأفكارنا، و(مساريبكِ*) مهرجانا يوميا لإقامة كرنفالاتنا، و(وسط سوقك*) ديوانية نريح فيها أبداننا، ولايغيب عنها إلا من أقعده المرض!. [مازالت تشنّف روحي قبل أذناي أهازيج (فزعة الصّرام*) وحماس (فزعة الطّينة*) و(ناي*) الرعاة] (**) الذي تردده الجبال في صدى متناغم، فأين ذهب كلّ هذا؟!. وحينما لم يجد منها ردًّا واصل بغضب بصراخ يخالطه غضب: – أألجم الجفاف لسانك، كما فعل بروحك وفؤادك؟! بين (ركايبك*) كانت تُروى أحلى القصص، وأجمل الروايات، ممّا يُعجز (ديزني) عن ابتكار أمثالها، ولو حاولتْ!، وبين جنبات غاباتك كانت تُحاك أشدّ الحبْكات التمثيلية غموضًا، وأكثر الأفلام الحركية تشويقا، ممّا يُضعِف محاولات (هوليوود) لتقليدها، وفي مسابحك العميقة الصافية (*) التي تجمع رهبة المكان ورهبة العُمق، كانت تُقام المنافسات الصعبة للتحدّي، سباحةً أو غوصًا، مما يُعجز (الأولمبياد) أن يُنشيء مثلها… ردّتْ بشحوب: – أفرغتَ؟َ! فرح بردّها المباغت فقال: – جميل جدا، أرى بوادر كلام بعد صمت. فكرّرت ذات السؤال: – أفرغتَ ياهذا؟! – ليس بعد أرجوك دعيني أكمل حديثًا لن ينتهي، وأروي قصّة لم تبدأ بعد، وأروي عطشا لن يرتوي!. حتّى أفراحنا أغتيلتْ، ولم يعد تبهجنا (عِراض الصدّات *)، ولم نعد نسنشق فيها عبير حزمة (الكادي والريحان والبعيثران*) الملفوفة بعناية فائقة* !. *وفي القادم نكمل الحوار “إن كان في العمر بقيّة”.

    * مفاتيح مهمة: =العشّة: كوخٌ من القصب وأغصان الأشجار كان يُبنى بين المزارع سكنا لمن يقومون بحماية المحاصيل، وكذلك للرّعاة . = الحبلة: شجرة العنب، ومنها “البيّاضية” أي التي تنتج عنبا أبيض، و”السّوّادية” التي تنتج عنبا أسود. =المساريب: الممرات والأزقّة بين البيوت. = وسط السوق: مكان خاص لاجتماع أهل القرية، وكان سوقًا فيما مضى من أزمان بعيدة. =الصّرام:جني المحصول، وتحصل فيه (الفزعة) والتعاون بين أهل القرية بنظام وترتيب معيّن.

    =الطينة: اجتماع أهل القرية لمساعدة من يبني بيتا حديثا لإكمال المرحلة النهائية بوضع الطين على سقف المنزل، والقيام بالعرضة حتّى يُدكّ الطين جيّدا ويسلم من التشققات والثقوب، وكانت تلك الفعاليات مصحوبة بفرح عامر من كلّ أهل القرية وبالذات الأطفال.

    =الناي: معروف وهي أداة موسيقية عبارة عن أنبوب رفيع مفرّغ وبه ثقوب، تستخدم للألحان ذات الطابع المحزن، ولم تكن تُسمى الناي بل (الصفريقا).

    (**) نصّ مقتبس من أحد الأصدقاء. = الركايب: جمع ركيب، وهي المزارع التي تحوي الخيرات حسب الموسم، فقد يكون فيها الذرة الصفراء أو القمح أو زراعة موسمية كالبطاطا، وكانت بعض المزارع القريبة من البيوت تحوي كلّ أنواع الخضار.

    (*) لم تكن المسابح إلا من الآبار العميقة والواسعة أو الغدران المخيفة أو مصبّات الشلالات. =الصدّات: جمع “صدّة” وهي حفلات الزواجات عموما. = الكادي والريحان والبعيثران: أسماء نباتات عطرية معروفة، لكن الطريقة التي تُلف بها أهم؛ حيث تُلفّ بعناية داخل “عذق” كادي وتُهدى في الأعراس والمناسبات، وقد تكون بشكل شبه دائم مع الأمهات وكبيرات السن، وتُسمّى “الغراز” بمعنى الغُرزة.

مقالات ذات صلة

‫5 تعليقات

  1. وحيُك أبا أسامة جعلتني “أتشرع” بكلماتك في “كظامة الحارثي”، و”أتسمس” حول “القدرة”، وأرعى الغنم في “توالب”، وأرتوي من “أم الدبل”، وآكل من “حبلة عويّض”.
    وحيُك أبا أسامة جعلتني أشعل ذاكرة الماضي الجميل، حيث الماء والخضرة و”العثرب” الحلو، حيث اصوات “المواطير” الرقراقة
    وزقزقة “الرعيان” وقت “المراح”.
    وحيُك أبا أسامة جعلت قلبي يخفق بسرعة وكأنني صاعد من “الأقحاف” وبيدي “سطل تين”، و “قراطيس نيم”، وباقات من “ثمر الجنة”.
    وحيُك أبا أسامة، فلقد جنيت عليّ بهذه الذائقة “الديراوية” التي اشتممت فيها الماضي وكأنه فيلم سينمائي يعرض أمامي.

  2. ما أروعك ثم ما أروعك ثم ما أروعك أستاذنا الكبير أبا أسامة..نيابة عن الأدب وعشاقه وهواته..
    فإذا كان له بوابة فأنت بوابته..
    نسجت من الحروف جمالاً ومن اللغة خيالاً..
    فنّ تصويري أخّاذ ..يأسر اللب ويداعب المشاعر ويسرح بها في عالم الجمال ..
    لافض فوك أيها المبدع..
    ?????????

  3. للأسف نحن من ندمر كل جميل نجفف منابع الطفولة وذكرياتها مواطن الجمال من حولنا دوما يدانا عابثة بها تدمرها وإن كانت الطريقه غير مباشرة ومقصودة ونعود نعاتب الأرض على ما فعلناه نحن
    حوار شيق بينك وبين مسقط رأسك
    موفق دوما يا رب

  4. نعم للماضي طعم آخر
    وللحاظر مذاقٌ الذّ
    وحيُك اباسامه تساقطت وأمطرت دموع الطفوله..
    ابحرت معها على متن سفينتين إحداهم شراعية
    والأخرى حربية..
    فلم تزدني الشراعية إلا قوة وصمود
    ولم تضعفني الحربية بتطورها وقوتها ..
    تذوقت حنين الماضي ”
    وتعطرت ببخور الذكريات”

  5. شكرا لكم قرائي الكرام :
    عروة
    عبدالكريم الزهراني
    داليا السيد
    To2
    فكلماتكم الجميلة هي الوقود الحقيقي والدافع للاستمرار

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى