نُعاني اليوم من حرب ممنهجة ضد القداسة والتقاليد والقيم، حرب لا تبقي ولا تذر لحراس الفضيلة مسلكًا أومتنفسًا يسترجعون من خلاله أنفاسهم لبناء الحكمة والتريث والتبين الواجب بحق الفسقة الذين يمطرون الدنيا كل يوم بنبأ أو خبر أومكيدة. حرب تتجاوز الحاضر؛ لتمتد إلى الماضي فتطمسه وإلى المستقبل فتعبث في نواياه، حرب تقلّب الأمور وتترك الحليم حيران، وتحيل الغَفلة عنها حُمقًا والساكت عنها شيطانًا أخرسًا. حرب نراها تجعل التاريخ عاليه سافله، والمعالم التاريخية خَلْقًا آخر يتيه منه الجيل هائمًا في البلاد. حرب يشترك في عتوها أحيانًا أرباب القيم وصناع المستقبل، المستقبل الذي ينظرون إليه من لحظتهم الآنية ومصالحهم الذاتية، في الوقت الذي ننظر إليه من ماضينا العريق ومآثرنا الخلاقة ومبادئنا وقيمنا الراسخة. إن القيم والمبادئ والتقاليد المجتمعية تبقى ببقاء معالمها التي سكنتها ذات يومًا من الأيام، وببقاء الذوات التي تعتنقها لتحييها حتى يبلغ الجيل معها السعي فتمنحه إياها لتغادر في طمأنينة وراحة بال. والمشاهد اليوم لبقايا معالمنا التاريخية وشواهدنا التليدة، يجدها تحت وطأة الهدر وسَرَف الحاضر وسَفَه العقول . إن من أخطر الخطر أن يستيقظ الجيل على مجتمع منزوع الفوارق الحسية والمعنوية ومطموس الملامح المجتمعية التي تميزه عن مجتمعات اللحظة الراهنة والقيم المداهنة. ليس من خطر علينا وعلى قِيَمنا أشد من صاحب بدعة يجلبها لنا ممن لا أخلاق لهم، ومن صاحب بغي منا يبغي على قيمنا بطمس الفوارق التي تَفْرقنا عن غيرنا، فهما في الإثم سواء، بيد أن الثاني آمن في بغيه وسادر في هواه، وكلنا حرب على الأول. معالمنا التاريخية يجب أن تبقى ماثلة للأجيال لتراها ويأوي إليها الشارد من وهج الزيف وهجير الادعاءات المتقدة في المدائن المتحضرة. معالمنا التاريخية يجب أن نحترم كيانها وذاتها الملهمة والناطقة بكل ما تحكيه لنا من ماضي القيم والاستقلال القائم بذاته الرافض للذوبان في الآخر. أي ذريعة نخافها من بيتٍ عجوزٍ يسبح بحمد الله ويقدس له ؟!. أي ذريعة نتقيها من قصر شيده أجدادنا الأحرار؛ ليبقى شاخصًا مستعصيًّا على رياح الذل والهوان ؟! أي حكاية أنتم لها تحكون يا من تبنون الحاضر وللماضي تهدمون ؟! والعلم عند الله أن ذرائع الشرك في يومنا هذا هي غير الشرك الذي كان فيمن سبقونا من الأمم، وذرائعه غير تلك الذرائع .. فهل منكم يا طلاب الشريعة -حين ترفعون الحصانة عن الآثار-من أطلع الغيب فيها أم اتخذ عند الرحمن عهدًا عليها. إن الظلم وذرائع الشرك اليوم أن نعمد إلى المقدسات فنبهتها ونمحو صبغة الله عنها، ونميل على الماضي ميلة واحدة فنهدمه ونهدم فوقه الشخوص والعمران ونطمس المعالم، فنذر الجيل والأجيال القادمة عرضة لمن يأتي ليقبض لهم قبضة من أثر التاريخ والقداسة فينبذها ليخرج لهم مَعْلمًا ممسوخًا لا يحاكي قيمنا ولا يحكي ماضينا . ياأيها الذين ظلموا أنفسهم بوأد التاريخ وهدم المعالم وخراب الماضي ﴿إِنَّمَا إِلَٰهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ فلا تُضيقوا على التاريخ مسكنه، ولا تمحو من الماضي معْلمه. إن القداسة كل القداسة للحرمين الشريفين والآيات البينات والمشاعر المقدسة، وأما معالمنا التاريخية فهي عَبَق التاريخ، وحكاية القيم، ومسكن الحنين، فليس لأحد أن ينازعنا إياها، وليس للحاضر أن يعيش على حساب الماضي أو أن تبني أمانة العاصمة المقدسة أمجادها على أنقاض أمجاد من سبقوها، فهي أمانة، وعاصمة، وقداسة. ومن كريم السجايا وبالغ العرفان أن ينتخب طائفة منا -أهل مكة- أنفسهم في (مبادرة معاد) لحماية التاريخ ومعالمه وصيانة القيم ومراقدها والتفريق بين قداسة الحرمين والآيات البينات التي هي من عند الله وبين جلالة المعالم التاريخية، ومايجب أن نمنحها نحن الحجازيين الوارثين لها من حصانةٍ وعوامل للبقاء .. وقد عززوا لأهل العصر والمتعاقبين فينا أن هويتنا الربانية هي ما نلمسه في المسجد الحرام وآياته البينات التي لا يأتيها الباطل والإسراف من بين يديها ولا من خلفها، وأما عراقتنا الحجازية فهي معالمنا التاريخية التي يجب أن ندافع عنها قبل أن تمحى من الأرض. قُدُما “معاد” وشكرًا يا صُناع القرار، ورشدًا رشدًا يا “أمانة العاصمة” ويا طلاب الشريعة. ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾.
خالد سفير القرشي