“نزولًا عند رغبة بعض الفضلاء واقتراحهم أن أنشر خواطري المكتوبة في مرحلة الثانوية والسنوات الأولى من الجامعة؛ فقد اخترت هذه الخاطرة من مخطوط “مجرد خواطر”، قبل 31 عامًا؛ حيث هزني الشوق بحضوري إلى هنا، وقد نقلتها حرفيًّا دون تغيير، عدا تغيير طفيف في العنوان”. * الربيع.. هذه الكلمة لها معانٍ جميلة ورائعة. الربيع أنشودةٌ تغنّى بها عصفور يبحث عن دفء أمه. لوحةٌ بديعة بيد البديع سبحانه وتعالى. عندما هلّ فجرٌ جديد، والشمس الدافئة تنشر دفئها على الكون لتمدّ الأرض بالضياء، وتضفي عليها جمالًا وروعة، بعد أن عكست المياه -إثر سقوط الأمطار- ضوء الشمس، فإذا المنظر من أروع مايكون، وكأنك تشاهد ضياءً آخر ينبع من الأرض. * في داخلي كان هناك ضياء من نوع آخر، يشعرني بنشوة لا أستطيع التعبير عنها. إنه يذكّرني، بل يجعلني أتأمل طويلًا وبعمق، قول الله سبحانه وتعالى: ﴿ألم ترَ أنّ اللهَ يُزجي سحاباً ثمَّ يؤلّف بينه ثمّ يجعله ركاماً فترى الودْق يخرج من خلاله وينزّلُ من السماءِ من جبالٍ فيها من برَدٍ فيصيبُ به من يشاءُ ويصرفُهُ عن من يشاءُ يكاد سنا برقه يذهبُ بالأبصار …. ﴾. النور – 43. ضياء يجعلني أتأمل وأتأمل وأردد تبارك الله أحسن الخالقين. * ماأجمل هذا اليوم، في هذا الربيع، وما أبهج النزهة فيه؛ حيث يذهب بعض من الكدر الجاثم في صدر الإنسان مادام هناك ماحَلَّ بدلا منه. * ما زلتُ أذكر تلك الأيام الخوالي في الصّغر، تلك الأيام المليئة بالبهجة والسرور واللعب، مصحوبة ببراءة طفولية. نعم مازلت أذكر تلك الأيام حينما ينزل المطر -وفي الربيع بالذات- نجلس في نافذة المنزل “البداية” نراقب نزوله بفرحة ليس لها مثيل. وكنا لانستطيع أن نمسك أنفسنا من نشوة الفرح؛ حيث نراقبه في براءة، ونرى فقاعات الهواء الطافية على سطح الماء فننشد حولها أناشيد وأهازيج كنا نسمعها من الجدّات والأمهات. كنا نحفر في الأرض بأيدينا، على هيئة آبار، ونضع فيها الماء، ولا نعرف “البلها رسيا” !. بل أعتقد أنها هي التي لم تكن تعرفنا، رغم لعبنا في الطين، ومع ذلك فلم نُصبْ يوما ما بهذه التي يسمونها اليوم كذلك، لاأعرف حتى تاريخه لماذا وصفوا المسكينة “رسيا” بالبلهاء !. * عندما يحل الظلام ، ويكسو الأرض رداء أسود نعود بسرعة إلى منازلنا، ووجوهنا وثيابنا ملطّخة بالطين، فإما أن نبدّلها بسرعة، هذا إذا وجدنا بعضها، ونغسل وجوهنا، وإما أن نتلقّى بعض ( الصفعات ) كتأديب لنا ! * يزداد سكون الليل وتزداد ظلمته، فيخيّم على البقاع ذلك السكون العجيب الذي يُدخل في أنفسنا أحاسيس وأشياءَ لا أعرف كيف أعبّر عنها !. نقترب من الجدّة أو الأم أو الأخت الكبرى، لنسمع أقاصيصها عن مغامرات أجدادنا الأوائل، وعن قصص العفاريت و “السعالي” وما إلى ذلك !. ومع أننا جلوسٌ أمام النار المدفّئة “الملّة” إلا أننا كنا نشعر بوخز البرْد، لكني أعتقد أن ذلك الوخز ليس من البرْد، بل هو شيءٌ آخر !. كنا ننظر خلسة أثناء استماعنا لهذه القصص إلى الباب برغم أنه موصد، ولا أعرف هل هي مخاوف من هذه القصص أم شجاعة نادرة ؟!. وحينما تنتهي (الرّاوية) من القصة، لتنتقل إلى قصة أخرى، نحشر أنفسنا جهة الداخل ونقترب من النار التي بدأ يخفت لهيبها، أكثر وأكثر !. * كنا وكنا في تلك الأيام…. انتبهت لنفسي وأنا جالس على صخرة قرب الشلال المتدفق من أعلى الوادي، حينما غبت قليلا عما حولي لأتذكر تلك الأحداث السابقة، وفي نفس الوقت أقارنها باليوم، وآهٍ من اليوم، حيث الناس لم يعد يهمهم المطر، إلا فيما ندر، والأطفال أصيبوا بالعمى الجزئي من كثرة جلوسهم أمام التلفاز والفيديو..(مع ملاحظة أن هذه الخاطرة كُتبتْ قبل انتشار “البلايستشن” والفضائيات والنت والبلوتوثات والوسائط المتعددة وغير المتعددة، وحاليا الجوالات الذكية وغير الذكية). * إنهم لم يحسوا ببهجة الربيع يوما ما، إلا القليل منهم، ولم يتذوقوا حلاوة الطفولة وبراءتها…. كم هم مساكين هؤلاء الأطفال، إذْ أشفق عليهم من كل قلبي. * يوم جميل، زاده منظر الغروب جمالا وروعة؛ حيث منظر الشمس حينما تدنو من الأفق مودّعةً الأرض، فيالروعة هذا المنظر البهيج، وسبحان الله الذي أتقن كلَّ شيءٍ خلقه، والحمد لله رب العالمين. * في 15 / 4 / 1406 هـ – وادي عين الجمل، وهو إحدى الأودية الجميلة بقرية القحف – منطقة الباحة.
حامد العباسي