يبدو محمد ربيع الغامدي مغمورًا بالناس والحكايات .. فيما الماضي حاضر في وجدانه كرائحة رغيف طازج أو كالعشب تحت زخات المطر نقل لنا ربيع عبر المجموعة تشريح رؤيوي عميق لبنية المجتمع في تلك الحقب الزمنية التي كان الأناس البسطاء يتحلون بطيبة القلب والعلاقات الحميمية بين الناس وكانت هذه الصفات متجذرة داخل النفوس، 12 نصًا حوتها المجموعة حضرت فيها (المرأة) من القصة الأولى التي تعنونت بالحاجة المغربية وشكلت على امتداد السرد ثيمة رئيسية، وجعل القاص منها رمزًا مركزيًّا متعدد المستويات الدلالية التي تتجاوز التركيب والجملة السردية ضمن النسيج القصصي إلى المعاني العميقة التي تجعل القارئ يتأمل في أعماقها الدلالية، ويكتشف معها الأبعاد الإنسانية الذي يحمله هذا الرمز المشع. ففي نص (الحاجة المغربية) الذي يتخذ من الحرم المكي فضاءً مكانيًّا للأحداث أثناء أداء الشخوص طقوس العبادة (الطواف) للحاجة المغربية وطقوس العمل للسارد حين كان يقوم بفعل الاسترزاق عبر الطواف والسعي بالحجاج والمعتمرين بأجر مدفوع ونجح (ربيع)في جعلها حدثًا يمتلئ بالدلالات التي تصور التعاطي مع المرأة كشريك وكيان مسؤول بعيدًا عن أية توجس أو تخريصات أو توهم. بل إن المرأة كانت في أغلب النصوص هي البؤرة المركزية التي يدور في فلكها الحدث القصصي وإعطاء صور إنسانية ذات مستويات متعددة، فهي الغطاء والخيمة التي تستر العائلة التي تتغذى على الحب والحنين وهي العطاء واستمرار الحياة رغم الكدح والتعب والمعاناة وهي كما أسماها القاص (الواهبة) وعنوّن بهذه المفردة الدقيقة إحدى القصص التي تتحدث عن طيبة وعطاء امرأة حامل، وهنا نشير إلى مالهذا العنوان من دلالة بالغة العمق والذي ينهيه ربيع بما نصه (دخلت والأنفاس توشك أن تنقطع، والثواني قد انتهت وهي بكامل وعيها خارج الوقت، اتجهت نحو الركن المخصص للقربة، وفي المعلاق الذي يتدلى من السقف علقت قربتها ثم انتحت مكانًا قصيًّا من البيت لتهب للكون العظيم روحًا جديدة) ص20 وهي – أي المرأة- كذلك من يدفع ثمن نزق الزوج ومزاجيته واستهتاره برمي الطلاق عليها؛ لتخرج وجلة خائفة طريدة عبر النفاح والوهاد والجبال كما في قصة( الرصاصة) التي جعل منها ربيع خاتمة المجموعة، وكأنه يشير إلى ماحدث من تراكمات كانت بمثابة رصاصة تم تصويبها باتجاه هذا الكائن المعطاء. المجموعة لم تخل من نصوص تتوسل الغريب والعجائبي كما في بابور سكين (كنت أقسم لأقراني أن شكمان البابور يقول شيئًا وأننا لو أنصتنا جيدا فسوف نكتشف كلامًا مفيدا يقوله البابور) ص23 المتتبع لاشتغالات محمد ربيع السردية والمسرحية يدرك أنه منفتح على الماضي مهجوس بكشف ملابساته من خلال ممارسة فعل النكوص إلى لحظات ماضوية متسلحًا بأدواته السردية ومتقمصًا شخصية الطفل الذي كان، الطفل الذي يملك عينين سحريتين يغوص بهما إلى أقاصي الأشياء وشواهد الواقع، وكأنه في تلك اللحظة كان يعي أنه سيكون ساردًا للحدث في المستقبل لذا ترك كاميرا الذاكرة تسجل كل شيء بدقة متناهية فتأتي العودة لتلك الأزمنة مع سارد دقيق مسيجة بالحنين والتفاصيل واليوميات التي كانت مسكونة بنبل الناس وبياضهم وصفاء نياتهم كما في قصة (قعر الجحل)، والتي تحكي قصة عائلة كادحة مكونة من رجل وزوجته تهيأت لهما فرصة نادرة؛ لتناول عشاء فاخر مكون من لحم ومرق في أول يوم من نهار رمضاني قائظ قضته الأسرة في حصاد حقلهم لكن قبيل المغرب يحل عليهم غريب فيقدم الرجل (الجحل) وهو- الإناء الذي يطبخ فيه – بماحواه من لحم ومرق مرحبا بالضيف قائلا : كل ياضيف الله ليسجل لحظة إيثار نادرة لكن الضيف لايقل عن تلك الأسرة مشاعر وانسانية (تناول الضيف الحجل فاستخرج منه قطعة لحم واحدة، ثم أعاد الجحل لصاحبه ليعود إلى داره وإلى أهله فاليوم أول رمضان، وليس أجمل من جلسة الرجل مع الله في هذا اليوم) ص17 ولأن الحياة ليست إيثارًا وتسامحًا وعطاء وصدقا وبياض نية، بل هي كذلك تعج بالخونة ومن يحملون جينات الخسة؛ وكذلك فإن النفس البشرية يعتريها النقص لذا لم يغفل ربيع عن هذه الحقيقة وكان أمينًا بما يكفي في نقل أحداث توثق لحظات ضعف تعتري الإنسان في كل الأزمنة لذا رأينا ابنا يسرق حقل أبيه متخفيًا في ثوب حنبصي كما في قصة (الثوب الحنبصي) التي تسمت بها المجموعة كما وجدنا خصومة متجددة وعداء مستحكم بإصرار بين جارين لاتفلح معها كل وساطات أهل الخير كما في نص (خصومة):( ما أن سمع اسم خصمه على لساني، اسمه فقط حتى اضطرب وتغير حاله ولونه وقسمات وجهه وكنت كأنني قد لسعته بسلك كهربائي تكهرب بسببه وكهرب الجلسة كلها، وشرع يشتمني ويشتم أمي وأبي بأقذع السباب) ص38 وهو هنا عبر بوابة السرد يؤكد أن الإنسان ليس خيرًا محضًا ولا هو محض شر، بل هو حالات ومآلات . في مجمل ماكتبه محمد ربيع حكايات وعوالم وقدرة على التخييل تجعلني أقول إنه يكتب بتمكن وصدقية وأمانة علمية تصل به إلى حد نقل الواقع حرفيًّا كما هو خصوصا عندما يتعلق الأمر بالمحكي والمفردات فهو ينقلها كما كانت تردد على ألسنة الناس وهو لايبرر لنفسه كتابة المفردة كما يعرفها هو كمثقف، بل كما كانت عليه في سياقات المحكي في زمن حدوث الفعل ف(الفرت) مثلا في الزمن الغابر هي سيارة (الفورد) اليوم لكن هذا عند محمد ربيع ليس مبررًا كافيًّا لكتابتها على نحو بعيد عن سياقاتها الماضوية (الثوب الحنبصي) يتجاوز كونه سرد قصصي إلى كتاب توثيقي تسجيلي يرصد عذابات الإنسان كما في ( عرق مدخلة ) التي تروي معاناة السفر عبر طرق وعرة تخترق الجبال ومايكتنف ذلك وما ينطوي عليه من خطورة تشهق معها الأرواح، وكذلك قصة (سيل منقول) التي تروي مداهمة السيل الآتي من جبال بعيدة جدا لعابري الأودية بسياراتهم على حين غرة و( الصافرة) التي تصور معاناة الناس من الأمية و(الرحمانية) التي كانت واحدة من أقسى وأعمق قصص المجموعة والتي تصور واقعة مؤلمة متكررة الحدوث في تلك الحقبة حين يقضي الناس داخل الآبار اختناقا؛ حيث تجبرهم الحاجة إلى النزول إلى أعماق الآبار السحيقة لإصلاح خلل مواتير رفع المياه في رحلة مغامرة تقضي على مرتكبيها في غالب الأوقات وهو ماحدث مع بطل قصة( الرحمانية ) الذي قضى نحبه مختنقا داخل البئر، وهذا النص عميق وبالغ الدلالة تصويرا وتأثيرا في ظني أنه يحمد لمحمد ربيع هذا الاشتغال والحرص على توثيق ورصد مظاهر الحياة في تلك الأزمنة عبر السرد والمسرح في (( الثوب الحنبصي)) كشف ربيع عن قدرة مذهلة حين استطاع الولوج إلى تلك الأزمنة وتمكن من استلهام تداعياتها بلغة امينة وعبر الرصد الواعي بعين سينمائية وذاكرة لاتشيخ، وهو يهمس بفعل الكتابة لجيل كامل عما لم يره ولن يهتدي إليه إلا بوجود مثقف نوعي مثل (محمد ربيع) يدرك مسؤوليته تجاه تعاقب الأزمنة وتبدل الأحوال. الجميل حقا أن هذه المجموعة تمت طباعتها بطريقة برايل؛ إضافة إلى الطبعة العادية وهو مايجعلها متاحة لشريحة تستحق توفير نتاج جيد لها والثوب الحنبصي أحد تلك التاجات التي تستحق أن نوفرها لهم.
رؤية: ناصر بن محمد العُمري