كيف يقيس الإنسان عمره؟ وكيف يحسب أيام حياته على الأرض؟ هل نحسبها بتلك الوريقات الصغيرة التي نتزعها من التقويم مطلع كل يوم ثم نطويها، ونلقيها في سلة المهملات يوما بعد يوم؟ إنها عند البعض أيام مرت من أعمارنا ولن تعود، وهي عند البعض الآخر..ساعات مضت كما يمضي كل شيء حولهم دون أن يستوقفهم أو يشغل بالهم في قليل أو كثير. فهم يعيشون حياتهم في عبث ولهو..دون أن يحسبوا للزمن حسابًا أو للوقت قيمة. وهناك من يغتنم وقته في عمل شيء مفيد لحاضره ومستقبله، لحياته ومماته، يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدًا، ويعمل لآخرته كأنه يموت غدًا. فهو يعيش لحظات حياة مليئة بالنشاط والحركة ..وفي الحركة بركة ..يومه في غده ..وعمله في إنتاجه، الوقت عنده عبادة، والحياة عمل. طافت بمخيلتي هذه الخواطر وأنا أشاهد قصة قصيرة من قصص الحياة المفعمة بالعمل والاجتهاد والمثابرة والنجاح. قصة العم (سعيد) ..كما يحلو لزملائه بجريدة “الـمدينة” أن ينادونه. قصة بثتها قناة المجد الفضائية في تقرير مصور جميل أعده المذيع الشاب المتألق عادل بفلح. … العم (سعيد) أمضى أربعة عقود (40 عامًا) وهو يعمل (ساعيًّا) مراسلًا بين أقسام الجريدة وإدارتها المختلفة، اكتسح الشيب رأسه. .وعمره قارب الستين، ورغم ذلك لم يدع للمصاعب مجالًا ولم يترك للسن تأثيرًا. ولم يلتفت لشيء سوى تحقيق الأمل الذي رسمه لنفسه ..في خطوات ثابتة وباستمرارية لا تلين.. أكمل تعليمه الابتدائي ثم المتوسط والثانوي بالمدارس الليلية، وبعزيمة الرجال دخل الجامعة منتسبًا في مجال الدراسات الإعلامية متأثرًا بعمله في الجريدة، وبعد ثلاث سنوات ونصف تخرج من الجامعة ويسعى كما يقول للحصول على الماجستير؛ مستعينًا في ذلك بالله سبحانه وتعالى وتشجيع من حوله وتحفيزهم له وشد أزره …ووقوف أسرته إلى جانبه. وقصة نجاح (العم) سعيد تستحق الوقوف عندها لا لأنه نجح في الوصول إلى مدرجات الجامعة، ولكن قصته رسالة للجميع بأن الأهداف والطموحات لايمكن إيقافها إذا اقترنت بالإرادة الصادقة والعزيمة…وإن طرق تحقيق الأهداف واضحة سهلة. .أدواتها الجد والمثابرة وسلاحها إيمان بالذات بعد الاعتماد على الله والتوكل عليه…. في مشوار حياته البسيطة يقدم العم (سعيد) مثالًا رائعًا لأولئك الذين يترددون كثيرًا عن تحقيق آمالهم.. وأمانيهم ..وأحلامهم ..لمجرد عقبة صغيرة أو كبيرة صادفتهم أثناء سيرهم. إنه يقول لهم ولنا، إن الاستمرار في أي عمل تبدأه هو الركيزة الأولى التي تحقق النجاح بعد توفيق الله سبحانه. إننا كثيرًا مانواجه في حياتنا بعشرات الحواجز ..وما أكثر ماتمتلئ دروب حياتنا بالحجارة الصلدة من كل شكل ولون، ولو أن الإنسان منا أصابه الوهن والتعب من السير على هذه الأحجار أو محاولة تكسيرها وتفتيتها لما استقامت حياة أمة أو جماعة. إن كل شيء في بدايته صعب، ولكن مع الإصرار والاستمرار تهون المصاعب ويتحقق المستحيل وتلين الحجارة. المهم ألا يتوقف الإنسان عند المحاولة. ويجلس أمام أول مشكلة يواجهها يلوم نفسه ويؤنبها، بل عليه أن يواصل الطريق فالخطوة الأولى والتي تليها رصيد يُضاف إلى خطوات سبقتها حتى نصل إلى نهاية الطريق محققين الهدف الذي نريد .. فيا عزيزي لا تتوقف.. ولاتبكي من حرقة الأحزان التي تلهب وجدانك، ولكن استمر ولاتتوقف تحت وهم أنك تبذل جهدًا ضائعًا؛ فقد تأتي لحظة النجاح في الوقت الضائع أو الإضافي كما يحدث أحيانًا كثيرًا مع الرياضيين ولاعبي كرة القدم على وجه الخصوص. قيل للفيلسوف البريطاني برنارد شو وهو على مشارف التسعين من عمره. .ألا ترى أن الوقت قد حان لكي تعتزل الحياة؛ فرد عليهم ساخرًا: أرجو ألايكون غرور الشباب هو الذي دفعكم إلى طلب تنحيتي؟! على أي حال أريد أن أؤكد لكم أنني لم أشعر في يوم من الأيام بحيوية ونشاط كتلك التي أشعر بها اليوم. إنني على استعداد أن أبارزكم بأي سلاح تختارونه، ولو أنني أفضل أن يكون القلم هو السلاح الذي تختارونة لمنازلتي؟! وفي مساء ذلك اليوم قصد برنارد شو مكتبه، وجلس يكتب مقالًا بعنوان (شباب في سن التسعين)، قال فيه أليس غريبًا أن يشعر من كان في مثل سني بدماء الشباب تجري في عروقه؟ ولكن لم الغرابة؟ إن الشيخوخة لا تصيب سوى المقعدين، أما أنا فلم أقعد يوما، لقد قضيت عمري كله أعمل وأفكر وأكتب وأنتج، ولعلها بحثت عني في وقت أو في آخر ولكنها لن تجدني؛ لأنني لم أكن أبدًا هناك في انتظار مجيئها. ونختم بالقول إنه بالرغم من أن نمو جسم الإنسان يكتمل تماما في سن العشرين…والخامسة والعشرين. .إلا أن الله سبحانه وتعالى منح الإنسان عقلًا يمضي في نموه ونضجه، وأنه من المؤسف حقًا أن نهمل هذه الطاقة الهائلة؛ فنتركها بين جدران سجنها المظلم؛ حيث يعلو الصدأ وتهرم وتموت، وفي الأثر الشريف: “إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل”، وهذا الحديث الشريف يحث على بذل الجهد حتى آخر لحظة من حياة الإنسان لإعمار الكون في كل مجالات الحياة في العلم والعمل، وبذل الخير والعمل الصالح……وفق الله الجميع. .
عبدالعزيز التميمي