هل للغنى والفقر دور في القيمة الفنية للإبداع؟! وهل المبدع البوهيمي أو الفقير أو العاطل، يكتب أجمل وأعمق من المبدع المرفه؟. وهل المبدع الذي لا منصب له ولا مكانة اجتماعية يكتب أجمل وأعمق من صاحب المنصب والجاه والسلطان؟. وهل المبدع الذي يتعاطى الكحوليات ويتناول القهوة ويدخن السيجارة والمعسل يكتب أجمل وأعمق من الذي لا يمارس هذه الطقوس؟ أسئلة كثيرة يطرحها ويتحاور حولها المثقفون في الوطن العربي، ويتساءل من يمارس هذه الطقوس.. كيف لمبدع أن يكتب خارج سياق هذه العادات؟ حيث يعتقد الكثير من المثقفين الشباب بشكل خاص أن الإبداع وهذه الممارسات صنوان لا يمكن أن ينفصل أحدهما عن الآخر، وهو اعتقاد تدحضه الكثير من التجارب البارزة والمهمة، فإن كان هناك نموذج أو عدد قليل من النماذج التي كتبت وأبدعت واشتهرت وهي في حالة من الفقر، والعدم، والبوهيمية، فإن كبار الشعراء والمثقفين عاشوا حياة مستقرة ومرفهة، وبعضهم تبوأ منصبًا كبيرًا في بلده، ولنأخذ مثلًا شاعر العرب الأول : المتنبي، حيث عاش في كنف سيف الدولة الحمداني، مرفهًا ومقدمًا على كل الناس، وأبدع وكتب من الشعر ما لا يُشابهه شعر على مر العصور، وأبو فراس الحمداني، وكذلك العز بن عبدالسلام وابن زيدون، وابن حزم الأندلسي، وغيرهم كثر، ولنأخذ في الزمن الحاضر على المستوى العربي، كان صلاح عبدالصبور مسؤولًا كبيرًا في مصر، وكان طه حسين وزيرًا، وكان نزار قباني يكتب وهو يعيش مرفهًا في لندن، وقد كان سفيرًا لبلده، وكان محمود درويش مرفهًا ويحتل مكانة لم يصل إليها الوزراء أنفسهم، وكتب شعرًا لن يكتبه غيره، وكان الجواهري يعيش عيشة الرؤساء ما بين بغداد ودمشق، وها هو أدونيس يعيش حياة مستقرة مرفهة ومازال يكتب وينتج بشكل لا يشبهه أحد، ومن مثقفي وطننا نجد القصيبي مثلا، كان ابن عائلة غنية، وكان وزيرًا وسفيرًا وعاش في منصب الوزارة حتى توفاه الله، وكتب الرواية والشعر والبحوث والكتب الفكرية، وكان حسن القشري سفيرًا وأبدع كثيرًا، ومحمد الفهد العيسى كان سفيرًا وكان مبدعًا، وعبدالعزيز خوجة كان سفيرًا ثم وزيرًا وكتب وأبدع، وغيرهم كثر. ونحن نتحدث عن المبدعين الكبار الذين عاشوا حياة مستقرة ومرفهة لا عن الأغنياء الذين كتبوا ولم ينجحوا في كتاباتهم. في المقابل نجد نماذجًا قليلة من مشاهير المثقفين من عاش ” على قد حاله” كما يقال، ولكنهم أبدعوا وكتبوا واشتهروا، فمثلا : أمل دنقل كان معدمًا، وعاش محمد الماغوط حياة ليست مستقرة، وكذلك عاش حمزة شحاتة، وغيرهم من المبدعين عاش على الكفاف وأعطى وأبدع وأنتج، لكن الأمثلة السابقة ربما ترجح أن الحياة الكريمة التي يعيشها المبدع ستتيح له أن يكتب وأن ينتج إبداعًا مغايرًا، فـ “المتنبي وابن زيدون وابن حزم ونزار قباني ومحمود درويش” خيرة أمثلة على هذا، ذلك أن المبدع حينما يكتب فإنه لا يكتب من خلال تجربته الإنسانية فحسب، بل يكتب من خلال التجارب الإنسانية المختلفة هذا إذا كان مثقفًا حقيقيًّا، يهتم بالإنسانية وللإنسانية يكتب. أما العادات والطقوس الخاصة التي يرى بعض المثقفين أنها لابد أن تصاحب المثقف في رحلته مع الإبداع فهي عادات لا علاقة لها بالإبداع، وإنما هي عادات شخصية، يمارسها سائق التاكسي ورجل الأعمال والوزير والغفير، دون أن يكتبوا أو يبدعوا أو يتعاطوا الثقافة، وبالتالي فليس لها أثر من قريب أو بعيد بالإبداع. • الإبداع حالة لا وجودية، تتجلى في كثير من الصور.. أجلّها القصيدة.
د.أحمد قران الزهراني