خلال حقبة الثمانينيات من القرن المنصرم كنت أعمل “حبارًا” خارج المملكة في مطبعة تحت إشراف هندوسي من الهند أذاقني أصناف وألوان العذاب النفسي كان الرجل قاسيًّا لأبعد حد، لكنه ليس عنصريا .. لم يكن أمامي من بد سوى الرضوخ لقراراته التعسفية فكنت أعمل طوال الوقت على برميل من الزيت أخلط فيه الألوان بمقادير معينة .. المهم في الأمر كان هدفي الرئيسي أن أعمل محررًا صحفيًّا ولدي شغف هائل لهذه المهنة، لكن رب العمل -رحمه الله- رفض أن أبدأ عملي من على مكتب مرددًا إذا أردت النجاح ابدء من أول السلم. كان قراره سليم لكنه تمتم بكلمات شعرت أنه لن يثق في قدراتي على الاستمرار فأوكل علي ذلك العلج الذي مرمر بي البلاط .. كل يوم أوامر جديدة ولم يبقَ إلا أن أغسل رأسه الكثيف من رائحة الزيت التي تسد الأنفس! ! كان أمامي مشروع التخرج من الجامعة ولا املك المال الذي يفي بمتطلبات دراستي وسكني ووضعت لنفسي خطة تدبير للمصاريف لدخلي الذي لايتجاوز 900 ريال بالتمام والكمال ثلثها للسكن والثلث الثاني للأكل والشرب، والثلث الأخير للمواصلات وصحن بيتزا كل نهاية شهر فقط ثم تتبقى معي بضع من الفلسات لاتكفي لنهاية الشهر فأشتري أرغفة خبز أجففها وقبيل الراتب بيومين أو ثلاثة تكون هي زادي مع الماء ..
هذه حقيقة من شاء أن يصدقها أو يكذبها فأنا أكتبها ولايزال بعضا من أبطالها على قيد الحياة. لكنني واجهت معضلة جديدة في السكن وليس أمامي إلا أن أسكن مع الهندوس وأتحمل كل أذية منهم كما هو الأمر في مخيلتي أو أن أسكن مع الأقباط الذين يعملون في نفس المطبعة، ولكن خارج سكن العمال. وطبعًا هذا هو الأقرب توسمًا في حسن المعاملة وليس الشفقة كونهم عربًا .. اتفقت معهم على أن ادفع ثلث مرتبي مقابل السكن فقط .. وخلال العامين التي بقيت لي من دراستي تعايشت مع كل الطقوس الإسلامية والمسيحية والبوذية والهندوسية، وكنت أشاهد في اليوم 10 صلوات مختلفة .. رئيسي الهندوسي ذي الشوارب المفتولة والشعر الذي يصل طوله إلى متر يحمل في دواخله قلب إنسان حقيقي رغم قسوته معي .. كنت ألتقي به في العطلة الأسبوعية على شاطىء البحر القريب من عملنا وهو يعزف الناي بشكل جيد وتنهمر دموعه أثناء ذلك وبطبيعتي العاطفية أبكي معه “اقسم بالله ماكنت أدري وش السالفة”، لكن الرجل أصبح صديقي. قال لي ذات مساء. ليس من طبعي هذه القسوة لكن أجبرت أن أقسو عليك حتى تخرج للحياة من كل ألم تواجهه برحابة صدر .. هذه حكمة هندية عملت بها حتى مع المقربين مني لكن ثلاثة أرباعهم نفروا مني بمن فيهم أولادي!!.
تلكم القسوة صقلت بداخلي كل مواجع ألا تنزف كثيرا فتعلمت من الهنود الحكمة ومن الأقباط التسامح ومن البوذيين الصبر .. التعايش مع الأقباط فن لايمكن لأي شخص أن يتقنه والقبطي بحد ذاته حذر جدا من التعامل مع الغرباء وبالنسبة لهم كنت كافرا ولايمكن أن يمنحوني ثقتهم، لكن الأيام جعلتهم يثقون بي إلى حدٍ ما.. فأرى زملاءي الأقباط تأتيهم رسائل أسبوعية من الكنيسة عن التعاليم وكانت المرة الأولى التي قرأت فيها الإنجيل الذي أهداني إياه زميلي رزق لم أشعر فيه بشيء من السماء، بل كان أغلبه محفورًا بتخابيص كنهوتية بغيضة.. تقرأه ولاتعرف من أين بدأت أو انتهيت لكنني أنهيت آخر صفحة فيه بلا فائدة. . في الدار التي سكنت فيها مع الأقباط كانوا يجتمعون للصلاة كل أحد فيهم المحاسب والمخرج والصحفي، وأجلس أنظر إليهم وهو يعلقون صورة يعتقدون أنها لمريم عليها السلام وما إن ينتهوا من صلاتهم حتى يباشرون تقديم الغداء والحلوى.. وطبعا كنت أحظى بالنصيب الأكبر من كل ذلك كوني مدعو للمسيحية فكنت كل أحد أتغدى وأتعشى على حساب الأقباط وكل جمعة أفعل الشيء نفسه مع الهندوس وكل سبت مع البوذيين؛ لينتهي الشهر وقد وفرت قيمة الغداء والعشاء ..” لشراء كتاب ..
حقيقة كانوا في نظري زملاء عمل .. وكنت في نظرهم مشروع كافر إما أن “يتهندس أو يتمسمح أو يتبوذ” أرجو أن يسامحوني فقد فشلت كل محاولاتهم وتحديهم فيما بينهم أن اكون على دين أحدا منهم .. لكنني لعبت على هذا الوتر معهم حتى فارقتهم. . كانوا كفارًا أحلى من العسل ..
عبدالله عيسى الشريف