حلم لم يستمر -رحم الله- شاعرنا الكبير الأستاذ طاهر زمخشري (1332- 1407هجرية)؛ فقد كان شخصية أدبية جمعت الكثير من الخصائص التي قلما اجتمعت في بعض لذاته من الأدباء السعوديين المعاصرين له ..ونحن وإن كنا لسنا بمعرض الحديث عن شاعريته وأدبه وفكره ..وهو ماسنحاول أن نفرد له مقالًا آخر بإذن الله. .إلا إن من واجبنا أن نتوقف ولو للحظات أمام نتاجه الأدبي وخصوصًا شعره الذي يتصف بلغة رومانسية حالمة ونفس طويل منتظم الإيقاع تتداخل فيه ألوان من الثقافة والمعرفة والصياغة اللفظية التي تعكس شخصيته المسالمة المقبلة على الحياة والناس تغريك بالسفر معه في قارب مجدافه المتعة والأمانة والدقة وتصوير الواقع ومعاشرته. . وبعد هذه المقدمة ..ندخل إلى صلب ما أردنا أن نتحدث عنه وهو الحديث عن شخصية (بابا طاهر) الصحفي القدير الذي عرف أهمية أن يكون للطفل في بلادنا مجلة تهتم بثقافته، وكان ذلك قبل نحو ستين عامًا مضت يوم كانت ثقافة الطفل في الوطن العربي مزدهرة والاهتمام بأدبه محاط بكثير من وسائل النشر والتوزيع. .رغم ضآلة الإمكانات المادية …لقد فكر طاهر زمخشري في إصدار مجلة (الروضة)؛ لتكون رافدًا مهمًا ونافذة مشرعة ووسيلة جاذبة لنشر القيم الأصيلة والمبادئ النبيلة بين النشء في وقت كانت تصدر في بعض البلدان العربية وخصوصًا في مصر العديد من مجلات الأطفال المرموقة، وفي مقدمتها مجلات سندباد وسمير وميكي التي تصدرها مؤسسات صحفية عريقة ويقف خلفها التمويل المالي والدعم الكبير. وجهاز تحريري وفني واسع. ..
ولعل من أهم العوامل التي دفعت بالأستاذ طاهر زمخشري لإصدار مجلة الروضة في عام 1379 هجرية هو اهتمامه بأدب الطفل وثقافته منذ أن انضم إلى الإذاعة السعودية في بداية عهدها سنة 1369 هجرية؛ حيث كان من الرعيل الأول الذين التحقوا بها وشكلوا نواتها الأولى، وقدم من خلال أثيرها العديد من البرامج الناجحة وفي مقدمتها برنامج الأطفال (بابا طاهر) الذي حقق حضورًا شعبيًّا لدى أوساط الناس وأطفالهم بفضل ماكان يتحلى به الأستاذ طاهر زمخشري من نزوع إنساني دافق بالحب والنبل لعالم الطفولة الجميل؛ حيث عمل بكل إخلاص لتقديم مادة ثقافية وفكرية سهلة تفيد الطفل وتساهم في تشكيل شخصيته وتوجيهه وتنمية ذوقه وتكوين مجموعة من القيم والعادات الحميدة لدى الأطفال ..وهو مانجح فيه نجاحًا كبيرًا بشهادة معاصريه. . .ومن هنا فإن فكرة إصدار مجلة (الروضة) إنما هو امتداد لدوره الهام في مجال ثقافة الطفل السعودي عبر الإذاعة. فكانت مجلة الروضة وسيلة جاذبة للطفل من حيث تنوع موادها ومحتوياتها وأسلوبها واعتمادها على الصورة والألوان في تعبيرها عن الأفكار التي تنشرها؛ لتتناسب مع رغبات الأطفال وميولهم وأعمارهم. .وباعتبار أن القراءة من أهم المهارات التي تنمي لدى الطفل حب المعرفة والحصول على المعلومات وتساعدهم على إثراء خبراتهم الحياتية. .من خلال القصص والمواضيع العلمية والترفيهية التي تنشرها. ولقد عبر الأستاذ طاهر زمخشري بجلاء عن حبه للأطفال ورغبته في إسعادهم بقوله: (الأطفال هم عشقي الأول والنهائي والأخير ..أنا عاشق البراءة وأحلام الطفولة وأمانيها. .فالطفولة هي الوطن والحياة ..). ولعل وراء هذا العشق النبيل للطفولة هي المعاناة التي واجهها في طفولته المبكرة والتي اتسمت بالفقر والحرمان وهو مايفصح عنه بكل شفافية وصدق في ذكرياته ..قائلًا: وماذا تنتظر من طفل يولد في مدخل بيت من بيوت مكة المكرمة ونشأ في ردهات المحكمة الشرعية ؟! حيث كان يعمل والده عملا بسيطا. .وقد منّ الله على ذلك الطفل أن يكبر وأن يتعلم وأن يتخرج من مدرسة الفلاح بمكة المكرمة، ويصبح في عداد جيل من الرواد الذين أصبحوا فيما بعد من كبار الموظفين والأدباء .. صدر العدد الأول من مجلة الروضة يوم الخميس 14 ربيع الأول عام 1379 هجرية وقامت بطباعته مطبعة الأصفهاني بجدة. .كأول مجلة في ثقافية سعودية مصورة للأطفال… وقد استعان الأستاذ الزمخشري بلفيف من الأدباء والكتاب والشعراء السعوديين لإصدار مجلته ومن بينهم الأساتذة. .أحمد السباعي وعزيز ضياء، ومحمد عمر توفيق وعبد الغني قستي، وعبدالحميد عنبر وإبراهيم علاف، ومحمد عبدالله مليباري وعباس غزاوي، وحامد مطاوع وصالح جلال، والسيدة حياة عبدالحميد عنبر. كما استقطب لها بعض المحررين والفنيين من مصر. .وكان ثمن العدد الذي طبع في 16 صفحة من الحجم المتوسط ..( نصف ريال) وثمن (الاشتراك السنوي 25 ريالًا). وقد حظيت مجلة الروضة منذ صدور العدد الأول منها بإقبال كبير. …ولكن مع صعوبات كبيرة واجهت صاحبها منذ البداية تمثلت في مصاريف الطباعة ومكافآت الكتاب ورواتب الرسامين والمحررين والفنيين، وهو مالم يستطع الأستاذ طاهر زمخشري تحمله ..ويبدو أن الأستاذ الزمخشري كان ينتظر العون من الجهات الحكومية وكذلك من رجال الأعمال ومؤسساتهم … من خلال الإعلان على صفحاتها. .والاشتراك بأعداد كبيرة منها يتم توزيعها على المدارس. .ولكن يبدو أن شيئا من ذلك لم يحصل بالشكل الذي كان يتوخاه. .فكان أن تحمل العبء وحده. .فتوقفت المجلة عدة مرات.. قبل أن تتوقف نهائيًّا بعد صدور العدد 27 منها …أي بعد نحو تسعة شهور من انطلاقتها ..ولاشك. .أن هذه التوقفات تعطي مؤشرًا على مدى المعاناة التي مرت بها المجلة. . والتكاليف المالية التي لم يستطع الأستاذ الزمخشري تحملها وحده. .الأمر الذي أدى به إلى الإفلاس بعد أن أنفق كل مايملك في سبيل هذا الحلم الجميل، والحقيقة أن أصدقاءه ومحبيه حاولوا مساعدته ولكن لم يستطيعوا أن ينتشلوا المجلة من إخفاقاتها .. وسافر الأستاذ الزمخشري إلى خارج المملكة للعلاج. .بعد إصابته بإحباط شديد ومعاناة مرضية.. وهكذا أجهضت فكرة جميلة ورائدة على مستوى الجزيرة العربية والخليج ومن المؤسف أن الكثيرين لم يعرفوا لنا هذه الريادة إما جهلًا منهم أو تجاهلًا .. وبعد توقف مجلة الروضة بنحو 18 عاما أي في عام1397 هجرية ظهرت مجلة “حسن” التي تولت إصدارها مؤسسة عكاظ للصحافة وأسندت رئاسة تحريرها للأستاذ المربي يعقوب محمد إسحاق، وكانت مجلة رائعة في مادتها المتنوعة وإخراجها الفني الجميل، ولكنها توقفت هي الأخرى عن الصدور بعد نحو ثلاث سنوات تقريبا ..ولربما لنفس الأسباب التي توقفت بموجبها مجلة الروضة …رغم الفارق في الإمكانيات بين مؤسسة صحفية كبيرة .. وفرد من الناس ..وفي سنة 1402 هجرية أصدر الأستاذ عبدالرحمن الرويشد وهو أديب ومؤرخ مهتم بالتراث والأدب..مجلة الشبل…وهي تعد الآن أقدم مجلة أطفال سعودية . .ثم جاءت مجلة باسم. .في عام 1408 هجرية وهي من إصدارات الشركة السعودية للأبحاث والنشر. …وتوالى فيما بعد إصدار العديد من مجلات الأطفال..ومن بينها. . مجلات سنان. .فراس. .الرواد ..وللأسف الشديد فإنني حاولت التأكد من استمرار هذه المجلات أو توقفها، ولكنني لم أستطع. .ولعلها جميعا تصدر ولكن يغلب على بعضها محدودية الانتشار قياسًا بأمثالها من مجلات الأطفال العربية. .التي نجحت في الاستمرار والانتشار وأقرب مثال على ذلك مجلة (ماجد) التي تصدر في أبوظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة التي ظهر العد الأول منها في عام 1979م ..ويقال إن عدد النسخ التي توزعها مجلة ماجد أسبوعيًّا تصل لنحو 177 ألف نسخة وهو رقم قياسي في تاريخ الصحافة الموجهة للأولاد والبنات وفقًا لتقرير مؤسسة التحقق من الانتشار الدولية، ويصل متوسط عدد قراء النسخة الواحدة من المجلة لأربعة أشخاص ..أي أن عدد القرّاء أسبوعيًّا يصل لنحو 600 ألف قارئ تتراوح أعمارهم مابين 7 سنوات و18 عامًا حسب آخر استبيان أجرته المجلة، وهو رقم ممتاز يدل على أن لديها شبكة توزيع قوية وإمكانات مالية جيدة ..وإدارة متميزة. وإن كان هناك من يُشير إلى أن مجلة (ماجد) قد تدني مستواها عما كانت عليه قبل سنوات قليلة مضت. ولاشك أن ضعف التوزيع والانتشار والتواجد في السوق وارتفاع تكلفة الإنتاج وعدم القدرة على المنافسة من حيث تنوع في المادة ..عوامل سلبية تؤثر على مجلات الأطفال السعودية واستمرارها، وهو مايجب أن يؤخذ بعين الاعتبار حين التفكير في إصدار مجلات للأطفال. ختامًا: لايسعنا إلا أن نقف بكل تقدير واحترام لذلك الرجل الذي استشرف آفاق المستقبل وتحمل العبء، وضحى بالكثير من أجل تحقيق حلم لم يستمر، رحم الله الأستاذ طاهر زمخشري ..وغفر له وأسكنه فسيح جناته. .
عبدالعزيز التميمي
6 تعليقات