المقالات

العثيمين .. الشاعر والمؤرخ والأمين

رحم الله أستاذنا الدكتور عبد الله بن صالح العثيمين..الشاعر والمؤرخ والأديب والأمين العام لجائزة الملك فيصل العالمية. الذي وافته المنية يوم أمس الأول. بعد حياة حافلة بالعطاء والعمل المثمر. نشأ -رحمه الله- وسط أسرة بسيطة يعمل أبناؤها بالزراعة والتجارة. .وأخوه هو الشيخ العالم محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى. الذي يعترف له بالفضل في تعليمه وتحفيزه للدراسة. …ولد الدكتور عبدالله بمدينة عنيزة بالقصيم عام 1355هجرية ..التحق بمدرستها الابتدائية سنة1370هجرية. .ومنها إلى المعهد العلمي السعودي بمكة المكرمة، وحصل منه عن طرق الانتساب على الشهادة الثانوية العامة وكان ترتيبه الأول على المنتسبين والثاني على المنتظمين. .وكان يطمح للابتعاث إلى القاهرة للدراسة في إحدى جامعاتها ولكنه وجد طريقه نحو جامعة الملك سعود؛ ليتخرج منها سنة 1382هجرية من كلية الآداب قسم التاريخ، وكان من زملائه في الدراسة بالجامعة الدكتور محمد عبده يماني في كلية العلوم، والدكتور محمد منصور التركي بكلية العلوم الإدارية اللذين ارتبط معهما بصداقة وثيقة وعميقة ..عمل بعد تخرجه معيدًا قبل أن تبتعثه الجامعة إلى بريطانيا لدراسة الماجستير والدكتوراه وبناء على نصيحة أستاذه الدكتور عبدالعزيز الخويطر فضل الالتحاق بجامعة أدنبرة بإسكتلندا ليبتعد عن صخب العاصمة البريطانية لندن.

وكان المستشرق البريطاني الشهير(مونتجمري وات) صاحب الدراسات العميقة في التاريخ والحضارة الإسلامية ..مشرفًا على رسالته للدكتوراه التي كانت بعنوان (محمد بن عبدالوهاب حياته وفكرة)….وفي هذا الصدد يقول الأستاذ الدكتور عبدالعزيز بن صالح الهلابي في ورقة بحث القاها في منتدى بامحسون الثقافي بمناسبة تكريم الدكتور عبدالله العثيمين بصفته شخصية العام 1434 هجرية ونشرتها جريدة الجزيرة في عددها الصادر بتاريخ 6 رجب 1434 هجرية. ..

إن اختيار الدكتور عبدالله بن صالح العثيمين لدراسة (حياة الشيخ محمد بن عبدالوهاب وفكره) لرسالة الدكتوراه يدل على شجاعة إن لم نقل على تهور؟!..لماذا؟! لأن الشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله تعالى- كتب عنه أنصاره عشرات الكتب..وكتب عنه خصومه ربما أكثر مما كتب عنه أنصاره على المستوى المحلي والإقليمي والإسلامي. كما كتب عنه الكثير من المستشرقين بلغاتهم المختلفة. .هذا من ناحية. .ومن ناحية أخرى من يكتب عن الشيخ محمد بن عبدالوهاب لابد له أن يدرس ويستوعب كتبه في العقيدة (التوحيد) والفقه ومراسلاته وفتاواه. .بل عليه أن يدرس كتب أسلافه من العلماء سوى القريبين زمنًا منه أم البعيدين زمنًا مثل ابن تيمية..ليدل على مدى التواصل الفكري والعلمي بينه وبينهم وهل كان يتسق معهم في كل الأحوال أم كان يفارقهم في بعض الأحيان؟! وكان عليه أن يدرس أوضاع مجتمع المنطقة التي نشأ فيها الشيخ بكل أبعاده ليفهم تأثيرها على تكوين الشيخ العلمي والاجتماعي وعلى مواقف أمراء البلدان وطلاب العلم فيها وعامتها من دعوة الشيخ..ويدرس الناحية العلمية للشيخ بجانب ماأودعه مؤلفاته نظريًّا؛ وذلك من خلال الأساليب التي سلكتها الدولة السعودية الأولى إما بمباشرة أو بتوجيه من الشيخ في حياته. …إن كل ذلك حمل ثقيل على طالب تاريخ..ولكن عبدالله العثيمين لم يكن هيّابًا ولا متقاعسًا ونجح في كتابة رسالة متميزة وفق منهج علمي نقدي صارم . . ويخلص الدكتور الهلابي إلى القول بأن الدكتور عبدالله العثيمين ليس باحثًا وحسب، بل هو صاحب رسالة لا يكتب أبحاث للنخبة الأكاديمية بل رسالته أن يتواصل مع طلاب العلم والناس على مختلف مستوياتهم وأن يقرب ماكتب إلى القارئ حسب مستواه العلمي والثقافي.

فقد كتب لطلاب المرحلة الابتدائية ولطلاب الثانوية راعى فيها مستوياتهم فقرب إليهم المعلومة التاريخية بأسلوب سلس شيق محبب ..وانتقل بعد ذلك للطالب الجامعي ولأي قارئ متوسط الثقافة. .فألف كتابًا من جزئين عن تاريخ المملكة العربية السعودية. .الأول لتاريخ الدولتين السعودية الأولى والثانية والآخر تاريخ المملكة العربية السعودية بدءًا من تأسيسها وحتى وفاة الملك عبدالعزيز رحمه الله. ويشير الدكتور الهلابي إلى أنه امتدادًا لدراسات الدكتور العثيمين تلك توسع من الناحية الجغرافية والموضوعية فألف كتابا عن( نشأة إمارة آل رشيد).. والذي يعد واحدًا من الدراسات الرائدة من حيث منهجه ومصادره وتحليلاته؛ حيث اعتمد في دراسته على الروايات الشفهية لكثير من الرواة ذوي العلاقة المباشرة أو القريبة من الأحداث كما وظف نصوص الشعر الشعبي بصفتها وثيقة تاريخية. وقد حصل هذا الكتاب على جائزة مجلس التعاون لدول الخليج العربية في أولى دوراتها كأفضل كتاب ألف في دول الخليج في العلوم الاجتماعية في حقل التاريخ عند صدوره. وقد تابع الدكتور العثيمين -رحمه الله- مانشر من أبحاث ودراسات عن إمارة آل رشيد أو تناولت جانبًا منها. .وكتب عنها دراسات نقدية اتسمت بالثراء والموضوعية، وشكلت هذه الدراسات كتابًا بعنوان (قراءة في دراسات عن إمارة آل رشيد)….ولم يكن الدكتور العثيمين -رحمه الله- باحثًا في التاريخ وحسب بل محقق يمتلك كل أدوات التحقيق من حيث منهج التحقيق النقدي ..وقد أثمرت جهوده هذه في تحقيق العديد من الكتب التاريخية. كما قام بترجمة العديد من النصوص عن اللغة الإنجليزية في مؤلفات الرحالة والمستكشفين للجزيرة العربية.

عمل الدكتور العثيمين بعد عودته إلى المملكة عام 13- 92 هجرية مدرسًا بقسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة سعود، وقد تدرج في الرتب الأكاديمية بها حتى حصل على الأستاذية عام1402 هجرية، وتولى رئاسة قسم التاريخ لمدة عامين وعضو في مجلس كلية الآداب والمجلس العلمي للجامعة، واللجنة الاستشارية لوزير التعليم العالي. كما عمل مستشارًا لوزارة المعارف للتطوير التربوي عدة سنوات. وتم اختيارة كعضو بمجلس الشورى خلال الفترة من1420 وحتى 1430هجرية إلى جانب مشاركاته في عضوية مجمع اللغة العربية بدمشق ومجمع اللغة العربية بالقاهرة، هيئة تحرير مجلة الدارة ومجلس رسالة الخليج ومجلة العرب. وفي عام 1407 هجرية تم اختياره أمينًا عامًا لجائزة الملك فيصل العالمية؛ حيث استمر في هذا المنصب لمدة ثلاثين عامًا….وغادره قبل وفاته بأشهر قليلة نظرًا لمرضه. وقد أشاد صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل بن عبدالعزيز مستشار خادم الحرمين الشريفين.. أمير منطقة مكة المكرمة ورئيس هيئة جائزة الملك فيصل العالمية بالجهود التي بذلها الدكتور عبدالله العثيمين خلال توليه أمانه الجائزة ودعى الحاضرين لحفل الإعلان أسماء الفائزين بجائزة الملك فيصل العالمية في دورتها لهذا العام 2016. .1437هجرية للوقوف وفاءً واحترامًا وتقديرًا للدكتور العثيمين. وقال سموه: أود أن أتذكر بكل احترام وتقدير وشكر منقطع النظير لزميلي، بل لأستاذي الدكتور عبدالله العثيمين الأمين السابق لهذه الجائزة ..ولا أقل من أن نقف جميعًا اليوم احترامًا له وتقديرًا. وقد توجت جهوده في مجال الدراسات التاريخية بحصوله في عام 1426 هجرية على جائزة الأمير سلمان بن عبدالعزيز التقديرية للرواد في تاريخ الجزيرة العربية .

ورغم كل هذه الأعمال والدراسات التاريخية والاجتماعية والثقافية العميقة إلا أنها لم تشغله الدكتور عن جانب فكري آخر في حياته يتمثل في حبه للأدب والشعر الفصيح منه والشعبي. .وهو قد بدأ نظم الشعر منذ كان طالبًا بالمعهد العلمي السعودي كما يقول الأستاذ عبدالله بن إدريس في كتابه الشهير (شعراء نجد المعاصرون )، وقد صدر للدكتور عبدالله العثيمين نحو عشرة دواوين شعرية ..تحمل مضامينها كثير من الإبداع الفني والجمالي والأحاسيس الإنسانية المرهفة كما تحمل قدرة وصبر وأناقة في الكتابة….وأشعار مليئة بالشجن والحب والشوق والحنين لقيم إنسانية سامية تندثر وتطحنها متغيرات العصر..وهو فيما يصدح به من شعر لايتباهى ولايقع في ملاعيب الشكل أو الأغراب أو الغموض المرضي.. المجدب. وإنما يتجه نحو هدفه بأسلوب نضج واستقام وطريقة في معالجة القضايا فيها الكثير من الدقة والإتقان والأمانة التي تتبنى البساطة والسهولة وترفض الأبنية الغامضة المصنوعة واضعًا عينه وعقله وقلبه على نبض الحياة المتغيرة والخصبة. ولعلنا نختم بأبيات من قصيدته الرائعة العاطفية الأسرة (لا الشوق خف)، والتي نشرها في ديوانه (لاتسلني ):

لا الشوق خف ولا القلب الجريح
سلا عمن تجسد فيها الفن واكتملا
تلك التي سحرها الفتان أدهشه
وبث في قدميه العجز والشللا
هيفاء تقتل أن ماست وأن لعبت
رياضة جعلت من حولها مثلا
ألهت متيم بحث عن دراسته
وبدلت رغبة في نفسه مللا
حتى غدا باحثًا عما يقربه
منها ويختلق الأعذار والسبلا
يؤمها كل سبت كي يلاعبها
ماغرها مرة سهوا ولا كسلا
وماعهدناه ممن همه كرة
ولاتدرب (بالفوتبول)أو عملا
لكن من أوقعته في حبائلها
قد أوجدت منه في ميدانها بطلا
ولايلام محب في تصرفه
من يقرأ الأدب الماضي يجد مثلا
مأمن فتى غرقت في الحب مهجته
إلا أطاع لأمر الحب ممتثلا
وزهرة الروض كم اغرى تفتحها
طرفًا فما صد عن رؤياه أو غفلا
مازال يذكر إذ حيته أن هوى
من سحرها لامس الوجدان فاشتعلا
وراح يسأل عنها الخل فارتسمت
على محياه روح الحب قلت هلا
كلا الضريرين أردته مفاتنها
فتاة في حسنها الجذاب وانشغلا
كلا الضريرين لاحظ يساعده
ولافؤاد عن الجنس اللطيف سلا

وبعد فهذه لمحات بسيطة وعاجلة عن شخصية فكرية سامقة تستحق عن جدارة كل احترام وتقدير وإعجاب؛ لما كان يتصف به من همة وأخلاق عالية وعشق للوطن. ودور مؤثر في الحياة الثقافية والفكرية. ..رحم الله الدكتور عبد الله بن صالح العثيمين رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.آمين.

عبدالعزيز التميمي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى