المقالات

الهيئة.. بين الواجب والمسؤولية

أحدث قرار تنظيم أعمال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضجيجًا إعلاميًّا مدويًّا كرد فعل مباشر وعاطفي، افتقد في معظمه وضوح الرؤية لدى كثيرين كتبوا معارضين بشدة أو مؤيدين بقوة لهذا القرار، وبين هؤلاء وهؤلاء.. قلة نظرت إلى الأمر بروية وتأمل وموضوعية، ورأوا في هذا القرار مصلحة للهيئة لسببين: الأول هو حماية الهيئة من تصرفات بعض المحتسبين المتشددين في تعاملهم مع الواقع الاجتماعي، والثاني تخفيف العبء على الهيئة بإسناد بعض مهامها إلى جهة أخرى هي الشرطة أو إدارة المخدرات، وفي هذا أيضا تجنبًا لأي التباس قد يُصاحب الإجراءات التي كانت تُمارس على يد رجال الهيئة بحسن نية وبهدف حماية المجتمع من بعض الممارسات المرفوضة شرعًا وعرفًا.

والقول إن هذا القرار يقلص دور الهيئة في الإصلاح هو قول في غير محله؛ لأن الهيئة كأي إدارة حكومية قابلة لتطوير أنظمتها الإدارية، وليس من حق أحد رفض أي قرار لولي الأمر، ومادام موظفًا فعليه أن يتقيد بالقرارات الصادرة من مرجعه الوظيفي، ورجال الهيئة يعرفون قبل غيرهم معنى طاعة ولي الأمر، هذا أولًا، وثانيًّا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يعنيان المطاردات والملاحقات والممارسات التي كان يقوم بها بعض المتشددين من رجال الهيئة أو المحسوبين عليهم من المحتسبين المتشددين منهم على وجه الخصوص، وهم قلة أساءت لغيرها بحجة الإصلاح، وملأت أخبارها أعمدة الصحف والمجلات ومواقع التواصل الاجتماعي مما أدخل الهيئة في نفق العداء المباشر مع المجتمع رغم سمو أهدافها ونبل أخلاق المسؤولين فيها، لكن الصورة النمطية لتعديات بعض أفراد من تلك الفئات، شملت الجميع، لتتحمل الهيئة النتائج التي ترتبت على تلك الممارسات، ولأننا لم نرضَ أن يتحامل أحد على الهيئة كمؤسسة حكومية، فإننا أيضًا لم نرضَ أن تتحامل الهيئة على أحدٍ في إطار عملها الحكومي؛ لأنها تُمثل الدولة، ولا تمثل أفرادًا لهم رؤيتهم الخاصة ويريدون فرضها على الجميع، وواقع الحال يفترض أن توفق الهيئة بين الواجب الوظيفي والمسؤولية الاجتماعية.

ولا عجب أن تثور ثائرة أولئك المتشددين بعد أن حجمتهم هذه القرارات، وحدت من ممارساتهم التي تُسيء للهيئة كجهاز حكومي مهمته الإصلاح بالتي هي أحسن، وبمشاركة فعالة من الأجهزة المعنية بهذه المهمة الإصلاحية باعتبار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعيرة إسلامية مقيدة بما نص عليه الإسلام من حسن التعامل والرفق في النصيحة والمجادلة بالتي هي أحسن، ولذلك (تختص الهيئة وفقًا لهذا التنظيم بالقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إليه بالرفق واللين، مقتدية في ذلك بسيرة الرسول -صـلى الله عليه وسلم- وخلفائه الراشدين من بعده مع استهداف المقاصد الشرعية ، والإسهام مع الجهات المختصة في مكافحة المخدرات وبيان أضرارها على الأسرة والمجتمع).

فالهيئة جزء من منظومة متكاملة للحفاظ على أمن المجتمع وحماية حقوق المواطنين، ومحاربة الفساد بجميع أشكاله وألوانه، فهي في هذا الأمر ليست وحدها، ولكن بينها وبين الإدارات الحكومية المعنية شراكة مباشرة في هذا الأمر، دون أن تغيب عن الأذهان مسؤولية المواطن في الحفاظ على أمن المجتمع وسلامته. ثمة من يقول إن هذا القرار هو بداية لإنهاء دور هذا الجهاز الحكومي، وهو قول يفتقد الوعي بأن هذه المجتمع المسلم يدرك أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن وفق رؤية إصلاحية تترجم وسطية هذا الدين الحنيف واعتداله، وفي إطار الضوابط الشرعية والرؤية الواقعية التي يراها المسؤولون في الدولة، فنحن لا نعيش خارج الزمن، بل في بيئة عالمية لا بد من أخذ قوانينها وأنظمتها بعين الاعتبار، مع المحافظة على الهوية الوطنية الدينية، وهي الهوية التي لا تعزلنا عن العالم، بل تدفعنا للمساهمة في صناعة حضارته، بما نملكه من قيم ومبادئ وقوة اقتصادية مؤثرة، ومكانة عالمية معروفة، ومن خطل الرأي الاعتداد بالذات إلى درجة التقوقع، أو الانكفاء على ما نسميه الخصوصية الذاتية في مجتمع عالمي لا يعترف بالحدود أو القيود بين الأمم والشعوب.

إن أي قرارات لإصلاح أوضاع أي إدارة حكومية ومنها الهيئة لا يفترض أن يقابل بهذه الحدة في الرفض أو القبول، بل لابد من النظر إلى الأمر من خلال نظرة موضوعية واقعية تراعي ظروف المجتمع وتطوره ومعايشته لواقع جديد. أما الأفراد فهم وحدهم من يتحملون نتائج تصرفاتهم، دون أن تتحمل أي جهة رسمية مسؤولية تلك التصرفات، وهذا ما ينطبق على جميع المواطنين وفي جميع مواقع العمل الحكومي وغير الحكومي.

 خليل الفزيع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى