إن كانت مصر هبة النيل كما يقول المؤرخ الإغريقي هيرودوت فإن القنفذة هبة وادي قنونا كما تقول الجغرافيا، ذلك أن هذا الوادي الذي ينطلق من مآتي السراة يحمل الماء العذب قد فرش مهادا من الطمي عند مصبه في البحر الأحمر لتستريح عليه مدينة القنفذة، فكانت القنفذة قُبلة طبعتها جبال السراة على جبين البحر الأحمر عربون علاقة أبدية بينهما، وفيما يشبه الأسطورة قال لي الشاعر الشعبي المرحوم محمد بن معيض (أعمى قِذَّانَة) أن جبال السراة قالت للبحر: أعطني من ريح البحر أهبك بعض مائي العذب، وقد َقَبِلَ البحر ذلك، لكنه اشترط شيئا من زَبَدِ السيل (الطمي) مع الماء فاشترطت السراة شيئا من الشِّعْرِ مع الريح، لذلك (والكلام للشاعر نفسه) فإن جديد الشعر وما يفنُّ من فنون الطروق والألحان إنما يصعد إلينا من القنفذة عبر وادي قنونا.
تدفع جبال السراة مياهها السطحية في اتجاهين شرقي وغربي، فأما المتجه شرقا فيعبر السراة عبر سفوحها الشرقية قليلة الانحدار التي عرفت محليا باسم ” الهيلاء” إلى أن ينتهي به المطاف حيث رمال النفوذ في الشمال الشرقي، أو رمال الربع الخالي في الجنوب الشرقي، أما المتجه غربا ( وهذا ما يهمنا هنا) فإنه يتجه ليصب في البحر الأحمر عبر شبكة كبيرة من الأودية تقطع تهامة من اليمين الى اليسار، ومتوازية نظريا من الجنوب إلى الشمال منها: تيه، خلب، جازان، ضمد، صبيا، بيش، بيض، عتود، ريم، عرمرم، نهب، حلي، يبه، قنونا، الأحسبه، دوقة، شاقة اليمانية، شاقة الشامية، عيار، الليث، بشام، سديبة، فاطمة، رابغ، الصفراء، الحمض، داما، أظلم، المياه، عفال، صدر، والسر.
الأسطر أعلاه من فاتحة مقال لم ينشر بعد لمجلة أهلا وسهلا، عندما انتهيت من كتابته دخلنا في موسم أمطار أولد سيولا جارفة فتذكرت مقالي وتذكرت شعاب السراة، الشعاب التي تتخللها من جهاتها الغربية وهي شعاب شديدة الانحدار، لذلك كانت شعابا منكرة مخيفة لا يبحث من يسلكها إلا عن الله لتأنس به نفسه في ذلك السواد الموحش وذلك الجبروت المفرط، وقد عبرتها على الدواب من الجنش حتى بطاط ورأيت ماهي عليه من إصرار على القسوة، ولما كانت شديدة الانحدار فإن السيول تتدافع منها ويتدافع في أعطافها الغضب لا تترك شيئا في طريقها “تتسحب الجمال” كما يقولون، تصل تهامة وفيها بقية من الاندفاع لا تترك حجرا في مكانه ولا مدرا في مهاده ولا تضعف إلا في النهاية عند المصب.
قال الشاعر محمد بن ثامرة (القرن التاسع عشر):
يا ســـلام الله عَدَدْ ســيلُ(ن) فِيَ ارض الخَـبْتْ ورّدِي
حِنْ مضى من دِيْرِة اهل التهم ما خلّى عِراقُ(ن) جابر
واهل مِشْـــرِفْ ما دِرِيُّوا لِينَ حــلّق وســــط عُطْبـَــها
وِنْ نـَـدَرْ فِيْ البحـــر: يِسْــرِي يطرد البابور حتى كَلَّهْ
والسـّــــواعي جــالها -مِنْ بعد ذاكَـــــــايْ الكلل ـ وَنَى
هذا الطرف الأول، اقتصرت عليه رغم أنه لا يتضمن صلب موضوع القصيدة لحاجتي إليه في همسات اليوم، أما صلب موضوعه الذي يأتي في الطرف الثاني فلا صلة له بصلب موضوعي وقد نستذكره في همسات قادمة.
محمد بن ربيع الغامدي
مقال جميل ليس غريبا على الاستاذ محمد مع استشهادات رائعة لشعراء حكماء سواء أعمى قذانة أو ابن ثامرة ..
المقال جمع بين الأدب والجغرافيا والأدب الشعبي ..
معلم يستحق الإطراء ..
تحياتي /