كانت فكرة استخدام مادة صالحة للرسم والكتابة قديمة جدًا، وقد بدأ الإنسان بنقش الأشكال والرموز على الأخشاب أو الحجارة أو على جوانب الكهوف والمغارات القديمة. ثم بدأ يكتب على أوراق النخيل ولحاء الشجر، حتى فكر المصريون القدماء في استخدام لحاء نبات البردي، وبقي ورق البردي طوال قرون عديدة هو الوسيلة الوحيدة للكتابة حتى قدمت الصين في القرن الأول الميلادي الورق بشكله المرن الأملس وقد برع المسلمون العرب في صناعة الورق عندما وقع الصينيون أسرى بأيديهم في القرن الهجري الثاني، وقد بدأت صناعة الورق تزدهر في عاصمة الرشيد بغداد وافتتح فيها أول مصنع للورق العربي، ثم انتقلت إلى دمشق ثم إلى مصر وليبيا واليمن إلى أن استقرت في المغرب التي أصبحت مركز إشعاع في صناعته، ومنها عرفت أوروبا صناعته في القرن الثاني عشر الميلادي.
وبين ثنايا الورق والريشة و”الدواة” عاش البشر قرونًا من بعدها قرون، وكان الورق بشتى صوره هو الوسيلة الرئيسية والوحيدة لنقل العلم والعلوم، فكانت الكتب والمخطوطات هي العنصر الوحيد لنقل الحضارات وتوثيق العلوم بشتى ألوانها واختلاف مشاربها وتعدد صورها، حتى أطل الحاسوب برأسه على عالمنا الحالي وكان في بداية الأمر عنصرًا مكملًا مساعدًا للاحتفاظ بالبيانات ومعالجتها وتحويلها إلى معلومات ذات قيمة ومن ثم تخزينها وأرشفتها في وسائط تخزين مختلفة، وشيئًا فشيئًا بدأ يسرق الأهمية من الورق ويسحب البساط من تحت قدميه.
إن رائحة الورق وعبقه التاريخي الأخاذ والذي لايزال يستهوي الحرس القديم للبيروقراطية والإحساس المفرط بالنشوة عند إمساك القلم والتوقيع على الأوراق والمعاملات، إذا أضفنا إليه عدم الثقة في أسلوب العمل الإلكتروني هي العقدة التي قد تمنع البعض وبالذات أصحاب القرار والنفوذ من التفكير جديًّا في مواكبة العصر والبدء جديًّا لتخطيط ورسم خطوات “التحول” لاستخدام “الورق الإلكتروني” و”التوقيع الإلكتروني” باستخدام أنظمة الحاسب الآلي الحديثة. كما يبدو لي أيضًا أن فقدان الثقة في أسلوب وممارسة الحياة بشكلها الجديد “الإلكتروني” أو “الرقمي” قد بدأ يتضاءل فعليًّا عند أفراد المجتمعات، وقد بدأ المجتمع فعليًّا في “التحول” إلى هذا الأسلوب الجديد فأصبح استخدام الورق يتقلص شيئًا فشيئًا. شكى لي أحد المقربين وهو من الذين يعملون في القطاع الحكومي أنه بالرغم من أن تلك المنشأة الحكومية قد بدأت في استخدام الأسلوب الإلكتروني في تسيير أعمالها، إلا أن بعض المدراء هناك لازالوا يتمسكون بطباعة المخرجات النهائية “كالإجازات” و”أوامر الشراء” و “أوامر السفر” وغيرها الكثير من “الموافقات الإلكترونية” التي تنتجها هذه الأنظمة على “الورق”، وأن من الضرورة أن يتم طباعتها والتوقيع عليها بشكل “يدوي” والسبب من وجهة نظر هؤلاء المدراء هو أن هذه الخطوة تُمثل “زيادة في التوثيق” و”رغبة في الأرشفة للتأكيد” و”عدم ثقة بتلك الأنظمة”، فأجبته أن مع اعتماد مشروع المملكة القادم “للتحول الوطني” “سيتحول” هؤلاء المدراء قريبًا جدًا إلى “متفرجين” عن بُعد بعد أن يحصلوا على “شيكات ذهبية” كما حدث مع أسلافهم في “شركة الاتصالات السعودية” و”الخطوط السعودية”، أو أنهم قد “يتحولون” إلى شهود للعصر عند الحديث عن نجاح هذا المشروع الوطني العملاق بإذن الله مستقبلًا إذا تم إعادة صياغة عقولهم عبر دورات في “إدارة التغيير” أو ما يسمى بـ”Change Management” أوغيرها من الدورات لتحقيق أقصى قدر من الفوائد والإيجابيات، والتقليل من الآثار الناتجة للتغيير على هؤلاء الموظفين وتجنب الانحرافات عن المسار المرسوم.
إن التغيير في العمل يؤثر بشكل مباشر على جميع الإدارات من الموظف البسيط إلى أعلى مستوى في الإدارة. إن التطور، مثل إنجاز المعاملات الحكومية إلكترونيًّا وتقديم الخدمات التسويقية عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعية أو استعمال تطبيقات الهواتف الذكية، تفرض على المنشأة بأكملها تعلم كيفية التعامل مع هذه التغييرات بشكل فعال. فالتغير يحدث بسرعة في عالمنا المتنامي اليوم أكثر من أي وقت مضى.
إن أساسيات استراتيجيات التغيير هو تحديد انسجام التوقعات، وتحديد لفعالية وسائط التواصل الاجتماعي، ودمج لفرق العمل وتنظيم لعمليات التدريب المختلفة. كما أنها تعتمد بشكل تام على التقارير الناتجة من مؤشرات مقاييس الأداء، مثل النتائج المالية والكفاءة التشغيلية والتزام القادة وفعالية وسائط الاتصالات من خلال تلك التقارير ودراستها، لتحديد وتصميم الاستراتيجيات المناسبة؛ لنجاح التغيير وتجنب فشله أو لإيجاد الحل المناسب لأي اضطراب أو خلل في التنفيذ. هذه الفلسفة الرائعة الجديدة المسماة بمشروع “التحول الوطني” سوف تُعيد صياغة عقولهم وصقل خبراتهم الإدارية بشكل يؤهلهم لإعادة التفكير بشكل مختلف عما اعتادوا عليه من أسلوب العمل “الورقي” أو “اليدوي”، وسوف يتم هذا التغيير في مفهوم المهام والاستراتيجيات والنظم التشغيلية والمسؤوليات والمواقف والسلوكيات. وأخيرًا وليس آخرًا الحوسبة وملحقاتها وأنظمتها. يبدو لي أن إعلان “وفاة الورق” وانتهاء زمنه لن يتأخر كثيرًا وأن بديله “الورق الإلكتروني” الذي تشاهده أمامك على “الشاشة”، ولكن لا تستطيع لمسه بيديك على الطبيعة هو الذي سيكسب في النهاية وشخصيًّا أعتقد “ثقافة الورق” باتت إلى الزوال أقرب. السؤال الآن إلى متى سيصمد هذا الورق وحرسه القديم في زمن أصبح أسلوب الحياة بكافة صورها وعلى اختلاف أشكالها قد لا يسعفه على الصمود وينخر في جسده الضعيف المتهالك بشكل جدي ومتسارع؟! وقريبًا جدًا سنقول لبعضنا البعض “أحسن الله عزاءكم في الورق”.
فوزي الأحمدي