حينما كان الفيلسوف الألماني كارل ماركس على فراش الموت، وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، طلب المحيطون به أن يقول كلمة أخيرة، فرفض ذلك ، باعتبار أن الكلمات الأخيرة يقولها أناس لم يقولوا في حياتهم الكثير، لكنّ هناك من كتب، وقال الكثير، ومع ذلك لم تتوقّف ألسنتهم عن النطق ،وأقلامهم عن الكتابة بما جادوا من كلمات أخيرة ، وهو أمر لا يخلو من دس، ومبالغات، لذا تحتاج أمثال تلك الكلمات إلى تدقيق، ومراجعة، للتأكّد من صحّة نسبتها للمتوفّى، باستثناء تلك التي يكتبها المنتحرون في رسائلهم الأخيرة، رغم حالة الاضطراب ،وعدم التوازن النفسي، التي يعيشها المنتحر قبل اقدامه على فعلته، فالإنسان في الدقائق الأخيرة من حياته يكون في منتهى الضعف، والوهن، وعدم القدرة على التركيز، فـ” لا يستطيع الرجل أن يفعل أي شئ بسهولة وهو يحتضر”، كما قال “بنيامين فرانكلين” قبل رحيله عام 1790، ومن هنا تحتاج جملة مشعّة من طراز “جهزوا لي ثوب البجعة”، نطقت بها راقصة البالية أنا بافلوفا ، وهي على فراش الموت ، إلى تأمّل ، كونها جمعت بين بياض ريش البجع، وباليه”بحيرة البجع”، ولون الكفن؟، وكذلك مقولة ملك فرنسا لويس الثامن عشر حينما حانت منيّته عام 1824 “يجب على الملك أن يموت واقفا “، وكلمات أرنستو جيفارا لقاتله حينما حوصر بغابات بوليفيا عام 1967 ” اعلم إنّك جئت لتقتلني… اضغط الزناد أيها الجبان، فلن تقتل إلا مجرّد رجل”.
الكلمات الأخيرة اختراع لأناس مبهورين بآخرين أرادوا أن يسبغوا عليهم هالة، وهذا لا يعني إنّها كلّها تندرج ضمن هذا السياق، لكنّنا لا نجد لهذه الكلمات رواجا في ثقافتنا الإسلامية كون أن المسلم ،خلال الدقائق الأخيرة من رحلته في خضمّ الحياة، يستعد لمواجهة العالم الآخر، ليطوي الصفحة الأخيرة من حياته، وقلبه عامر بالايمان ، لذا يحرص على النطق بالشهادتين لكي يقابل ربّه، وهو ثابت الجنان، امتثالا للحديث الشريف “من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنّة”، وقوله (ص) ” لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ” كما نقل الصحابي أبوسعيد الخدري (رض) .
ومع ذلك تبقى كلمات المتوفى المسلم الأخيرة التي تسبق النطق بالشهادتين راسخة في ذاكرة المحيطين به، ومن ذلك ما روته ابنة الشاعر نزار قباني “هدباء” حين أشارت إن آخر كلمة نطقها في حياته، عندما كان في سكرات الموت في مشفى (سانت توماس) بلندن، هي”شكرا” بعد أن طلب منها أن تسقيه ماء، ويقال أنّ الشاعر الراحل طلب ورقة، وقلما، وخط وصيته طالبا أن ينقل جثمانه إلى دمشق، ويدفن فيها مختتما بـجملة “هكذا يعود الطائر إلى بيته، والطفل إلى صدر أمه”.
لكن الكلمات الأخيرة ليست حكرا على الأدباء والمشاهير، لأنها تخرج من أفواه الجميع، حين يواجهون الموت، وقد تلخّص تجربة، تعطي دافعا قويا للحياة، ومن هنا ظلّت الكلمات التي قالتها زوجتي الراحلة قبل دخولها صالة العمليات ترنّ في رأسي طويلا، فقد قالت لي، وكنت أجري وراء النقالة التي أخذتها للأبد “كن قويا، فأنا قوية”
هذه الكلمات فاقت الكثير من الكلمات التي قرأتها، إذ جعلتني كلّما أتذكّرها، في لحظات الوهن الإنساني الذي يداهمنا عندما نفارق من نحب، أستعيد نشاطي، فالحياة تحتاج إلى قوّة، وايمان لكي نتحمّل صدماتها الكثيرة، فانتشلتني من الغوص في بئر لا قرار له.
فكما أن الأشجار تحتضر متكئةً على جذورها، فتموت واقفة، لكنّ تلك الجذورتبقى طويلا في قيعان الأرض، يمضي الإنسان الذي محّصته التجارب، وطحنته معارك الحياة اليومية، وحاصرته المحن، والأمراض المتوحّشة، إلى دار حقّه، قويّا، متشبّثا في بخيط الضياء الأخير، صامدا بوجه (الفناء المكتوب عليه من خالقه) لا يريد أن يغادر إلا مستندًا على كبريائه، واضعًا الضعف الإنساني تحت رجليه، منتصرًا على الآلام، متعاليًا على الجراح، مبتهجًا بصموده في وجه العاصفة الأخيرة.
إنّ سِرّ قوة الإنسان ،في تلك اللحظات العصيبة، نابع من إيمانه، فالقوة هنا ليست في العضلات المفتولة، والقبض على جمر الألم فحسب، بل في النورالذي يتدفّق من كلّ مخارج الطاقة في جسده، وهو نهر يقين يروي صحراء القلب المجدبة، فيحييها بعد مواتها، ليكون إشعاع محبة يضيء عوالم المحيطين، فيتخلّق في عوالم متعدّدة، متشظّيا بالوجود .
هذا الاشعاع قد يأتي على شكل نظرات حكيمة، أو صمت فلسفي، أو حركة تحمل من الدلالات، والمعاني الكثيرة، أوكلمات بسيطة، لكنّها عميقة، كتلك التي قالتها الراحلة قبل ارتدائها “ثوب البجعة”.
عبدالرزّاق الربيعي