عوضه الدوسي

مظاهر من الجريمة

لو تأملنا البواكير الأولى لظاهرة الجريمة؛ لأدركنا حجم الحسرة والندم (ياويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب) ففوات الأوان وحالات الحسرة والألم التي لازمت قابيل كفيلة بأن تحمل إلينا مضامين وعي (فاعتبروا…).
إن موضوع الجريمة عريض ومتشعب الجوانب، ويتجاوز إلى نواحٍ مختلفة نفسية واجتماعية ويُحاط بالموضوع ظروفه الزمانية والمكانية، وقد يتعلق أيضًا بخصائص المجني عليه ولكن علينا قبل ذلك لفت الأنظار إلى أبرز مظاهر الجريمة وهي جريمة الاعتداء والمضاربة والتي شكلت أعلى نسبة بواقع 75% كما وردت في المؤتمر الصحفي لوزارة الداخلية منذ أيام وقد أشار المصدر أن تلك الجرائم تتدرج من بطيئة إلى متسارعة في اضطراب واضح يعاجل لارتكاب الجرم بين المتنازعين.
ومن هنا فإنه مادام التعامل مع الآخر من خلال الدونية والتحقير، بعيدًا عن مقتضيات الاحترام والتقدير والسلوك الحضاري لن نتمكن من إنهاء ممارسة الجريمة على اختلاف أنواعها ومستوياتها خصوصًا إذا استعرضنا الجرائم التفصيلية بكل حالاتها ووسائلها في ذلك الاعتداء السافر للعرف السائد والخرق الفاضح للقواعد والمعايير الأخلاقية . إن نشر الوعي الحضاري وفق المنهج الديني في صفوف المجتمع وذلك من خلال الابتعاد عن الانفعالات الزائدة ورؤية الناس بمنظار الأخوة على قاعدة (إنما المؤمنون إخوة) والوقوف على قدم المساواة على مبدأ(كلكم لآدم) أقول من هذا السياق تنشط الأخوة، ولا ينتج عن ذلك إلا خير وألفة ومحبة ومسايرة في الصفح والتسامح. ولذا نلمح أن هنالك شخصية مندفعة ومتسارعة بصورة انفعالية وإسراف في المواجهة وبحالات انتقامية عدوانية لا ترقى لمستوى حالة النزاع والمشاجرة أو المشكلة ذاتها وهي جل ما نقع فيه اليوم من الجرائم، بل هي الشرارة الأولى للجريمة المتعاقبة ولاشك أن هناك درجات متباينة على سلم الجريمة وتختلف الشخصيات من شخصية لأخرى وتحفزها الظروف المختلفة .
إن سوء التنظيم الذهني ومحاسبة الذات في التصدي للواقع يجعل المجني عليه منقادًا إلى بوتقة العنف فيضيق ذرعًا بما لا يضاق منه فتحدث حينها النزعة والانجراف وراء الإغواء والزيغ الشيطاني ولاشك أن الخروج من هذا المأزق هو إصلاح الذات والذات لا غير. وسوف تمتد إشراقات الصلاح إلى المحيط . كل ذلك سوف يحدث من خلال المراجعة وملامات النفس على قاعدة ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍحَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ وذلك من منطلق لا تغضب، وهذه النصوص تُوحي لنا بدلالات فلسفية قادرة حال الاتباع إلى نجاة النفس وخروجها من الارتكاس وتكبيلها بعلاقات اضطهادية واهمة تتصاعد من خلال وسواسٍ قهري، يدفع ذات النفس إلى الجرف والهاوية والهلاك بالتعدي على الآخر في صورة جرم عنيف .
ومن المنظور النفسي والاجتماعي تُحدد المدارس أن هناك علاقات اضطهادية مر بها المجني في مراحل طفولته وفي سن المراهقة ويظهر على ذلك شكل عدوانية موجهة إلى الآخر يُعبّر بها عن تيار خفي داخل ذاته وعدوانية متراكمة يبرزها بشكل نشط ومباشر إلى محيطه, وفي مجمل القول يكون التعامل مع الواقع دون عقلانية ودون خطة مسبقة في الذهن ذات مراحل منطقية يسيطر بها على ما يواجه في الحياة اليومية من خلال عقل واعٍ يعطي الشيء حقه ويضع الأمور في نصابها وخلاف ذلك فإننا سوف نرى فوضى وانعدام في تماسك الشخصيات وبالتالي يقع الإنسان في براثن الجرم مما يجعله يلجأ لاحقًا إلى التمنيات للخروج من مأزق الخطيئة, إلى جانب أننا نرى أن هناك دورًا آخر للمجني عليه في تحريض ارتكاب الجريمة عليه. وصورها مختلفة ومتعددة .
أما بالصورة المباشرة كحالات الاستفزاز والتحدي للآخرين مما يُثير حفيظة الطرف الآخر وكل ذلك يحدث نتيجة لتدخل عوامل ذاتية انفعالية أكثر منها مراعاة لاعتبارات منطقية ومن هنا يكون المجني عليه شكل شرارة العدوانية من الطرف الآخر من خلال الاستثارة والتحدي، وهذا يُشكل عامل جهل ويجعل المجني عليه في الحلقة الأضعف إلى جانب أنه يُشكل عامل ضعف للمجني عليه كونه عاجزًا عن التصدي للمواقف بعقلانية وكذا للحياة برمتها بقضاياها اليومية المختلفة .
كما نرى الأسلوب الساخر من المجني عليه هو الآخر يُشكل طريقًا مباشرًا فاعلًا للاعتداء، وصاحب هذا السلوك يصنف ضمن الذهنيات المتخلفة التي ما زالت عاجزة عن إدخال التنظيم على الواقع المحيط وواقعه خصوصًا لأن أداء الرسالة والواجب مناطان من جميع فئات المجتمع والتبخيس والدونية لا توجه لأحد من بني البشر والله يقول:﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ﴾ومن ليس لديهم رسالة وواجب سواء تجاه النفس أو المجتمع نوجههم باللين والحكمة، من منطلق ﴿وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾فالأجير وأصحاب المهن البسيطة يصطف على قدم المساواة في الفاعلية والإنتاج بأصحاب المكانة والمقام وفي الأثر (من بات كالًا من عمل يده بات مغفورًا له) ذاك هو المنهج الحق ومن هذا المفهوم ينظر إلى الفاعلية والإنتاج وليس إلى المكانة والمقام .
أما الجانب غير المباشر فيكون لأسباب أخرى تتعلق بخصائص المجني عليه من خلال الاستكانة وتبخيس الذات وهو بهذا الأسلوب يوجه إلى ذاته العنف من خلال الآخرين فالظهور بشخصية معتدلة مع مراعاة القيم والمبادئ الاجتماعية في الألفاظ والزي هو عامل مساعد ٌ للاحترام والتقدير من الطرف الآخر، لأن أسلوب التغريب وحالات الغنج والتكسر تشكل مثار إزعاج وتدفع إلى المواجهة وهذه الشخصيات التي تنتهج هذا الأسلوب سواء إهمال مباشر متعلق بخصائص الجسم أو النفس أو السلوك أو العمر أو الجنس أو المهنة أو الظروف المحيطة بمكانها وزمانها، نرى أن هذه الشخصية ما زالت بحاجة إلى جهد كبير لاستجلاء غوامِضها من خلال مراكز بحث متخصصة في العلوم النفسية والاجتماعية وأن يكون هناك دراسات ميدانية مستفيضة وجادة تدرس الحالات من واقع الحادثة بأطرافها المختلفة جانٍ ومجني عليه، والظروف التي أحاطت بوقوع الجريمة والاستفادة مما هو منجز في ساحات التحقيق وأروقة الشرط الجنائية كل ذلك سوف يقود إلى أفق مستقبلي أرحب، وبالتالي نعرف التباينات بين كل شخصية وأخرى، ونكتشف كل حالات الانفعال والعواطف التي تقود إلى الوقوع في فخ الجريمة، وخلاف ذلك سوف يظل أفق الحالات الجرمية مظلمًا معتمًا ونحن منحسرون ضمن حدود آنية في الدائرة المفرغة . الجدير بالذكر أن المجني عليه يقع عليه اللوم أحيانًا كونه يظل عاجزًا عن إدخال التنظيم السلوكي على الواقع، وواقعه خصوصًا كما ذكرنا لأنه يفتقر إلى التنظيم والوعي والمنهجية ويعيش في التخبط والعشوائية بمظاهر تناهض المجتمع وأنماطه المتعارف عليها وهذا يحتاج إلى توقف وإعادة نظر والجلوس على طاولة البحث مع الجهات المعنية بجهاتها المختلفة .
كما ندعو إلى دارسة كل الشخصيات الجاني والمجني عليه ودراسة الظواهر عمقًا واتساعًا وهو شرط أساسي للسيطرة على واقعنا والإحاطة بكل تلك الظواهر وما يصدر من تلك الشخصيات إذا كانت الرؤية من جانب المعالجات بمنظار الإخوة ونفع للآخر، فإننا بمقدار العلاقة بالواقع والإخلاص بنوايا حسنة، فإننا سوف نرى نتائج إيجابية تعبّر لاحقًا عن مضمون نرضاه لمجتمعنا المسلم على مبدأ ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾فالفكر الخلّاق ومعايشته حقًا هو الوحيد القادر على تغيير الواقع المر والتحول أو الانتقال إلى مرحلة توليفية مع الذات والمجتمع . نرى فيها الاستقامة والإشفاق والرحمة والتغاضي والتسامح ونماذج الخلق الكريم .
عوضة بن على الدوسي 
ماجستير في الأدب والنقد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى