مصطلح المسئولية الاجتماعية مصطلحٌ خاص نشأ بعد طغيان بيئة الأعمال والأموال على مظاهر العناية بالإنسان، والمجتمع، والحماية للبيئة والمكان، وقد ساد هذا المصطلح في القطاع الخاص في الدول الغربية، وعملت به كبريات الشركات والمؤسسات الاستثمارية كنوع تكفيرٍ عن خطيئة إهمال المجتمع والبيئة. وأما عن المفهوم فقد تعددت المصادر التي تحاول تأطيره وتحديد معالمه، ومن ذلك: الموسوعة الحرة (ويكيبيديا) تعرفها بأنها: نظرية أخلاقية لأي كيان، سواء كان منظمة أو فردا، يقع على عاتقه العمل لمصلحة المجتمع ككل، وهي أمر يجب على كل منظمة أو فرد القيام به، للحفاظ على التوازن ما بين الأعمال وخدمة البيئة والمجتمع. وترى أنها أمرٌ لا يختص فقط بمنظمات الأعمال، بل هي شأن كل فرد تؤثر أفعاله على البيئة، وهذه المسئولية يمكن أن تكون سلبية، عبر الامتناع عن الانخراط في أفعال ضارة، أو إيجابية، من خلال القيام بأفعال تحقق من أهداف المجتمع بشكل مباشر. مؤسسة العمل الدولية تعرفها بأنها: المبادرات الطوعية، التي تقوم بها المؤسسات، علاوة على ما عليها من التزامات قانونية، وهي طريقة تستطيع أن تنظر بها أية مؤسسة في تأثيرها على جميع أصحاب المصلحة المعنيين، وتعد المسئولية المجتمعية للمؤسسات تكملة للوائح الحكومية، أو السياسة المجتمعية، وليست بديلاً عنهما. البنك الدولي يعرفها بأنها: التزام أصحاب النشاطات الاقتصادية، بالمساهمة في التنمية المستدامة، من خلال العمل مع المجتمع المحلي، لتحسين مستوى المعيشة بأسلوب يخدم الاقتصاد والتنمية في آن واحد. الاتفاق العالمي للأمم المتحدة يعرفها بأنها: ربط اتخاذ القرارات في مؤسسات الأعمال بالقيم الأخلاقية، وبالامتثال للاشتراطات القانونية، وباحترام الأشخاص، والمجتمعات، والبيئة. وعلى هذا، فإن النظرة في الفكر الإسلامي لمسألة الإنسان والمكان، تنطلقُ من منطلق آخر، إذ الإلزام لا يكون إلا من جهة الشارع -سبحانه وتعالى- سواء كان ذلك في الأوامر والنواهي، أو الأحكام والحدود، أو الأخلاق والفضائل، وأما ما احتف ببيئة هذه الأحكام من الأعراف التي يتعارف عليها المجتمع، فهي أيضا متعلقة بالأمر الشرعي، وليست مستقلةً عنه، فالمقصود الشرعي الأعلى هو تأسيس التعارف على الخير، وبناء المفاهيم والسلوكيات المجتمعية، التي تحقق مظاهر العبودية لله، وتحفظ حدوده وتحمي حرماته. ولذا، فقد شبه بعض الباحثين تطبيقات المسئولية الاجتماعية وممارساتها الإجبارية (الإلزامية) بالفرائض والواجبات والحقوق، كالزكاة في المال، والحقوق الواجبة في الجوار وحق الطريق، وكالحقوق والأعراف العامة، وشبهوا التطبيقات والممارسات الاختيارية (الالتزامية) للمسئولية الاجتماعية بالصدقات في الأموال، أو الإحسان للآخرين والنفع العام، أو الآداب والسنن والفضائل الاجتماعية. وصل مصطلح ومفهوم المسئولية الاجتماعية إلى البيئة المحلية قبل قرابة عقد من الزمان، عندما بدأ إيقاع الأموال والأعمال العابرة للقارات ونُظم التجارة الحرة، تعم دول العالم، وهو في بيئتنا المحلية بين الإلزام الحكومي والالتزام الأخلاقي للمؤسسات، إلا أن كثيرا من الشركات والمؤسسات بادرت بالالتزام بمسئوليتها تجاه المجتمع، وفتحت أقسام وإدارات تُعنَى بالمسئولية الاجتماعية، وتجمع كل خدماتها الخيّرة تحت هذا المسمى ليدرك المجتمع أثرها، ولتصنع صورتها الذهنية، أو تحسّن الصورة النمطية عنها لدى الجهات الحكومية وأصحاب القرار وعموم المستهلكين والعملاء على حدٍ سواء. وقد توسع استعمال هذا المصطلح خارج نطاق القطاع الخاص، ليشمل الجهات التي ترغب في تقديم خدمات اجتماعية بشكل تطوعي للبيئة المحيطة بها، أو للمجتمع بشكل عام، بل تطور الأمر إلى التفكير في جمع كل هذه الجهود تحت مسمى “القطاع الثالث” المكمل لعملية التنمية، التي يقوم بها القطاعان الأساسيّان: الحكومي والخاص، كما هو الحال في بعض دول العالم. والحاصل أن موائمة فكرة المسئولية الاجتماعية للمقاصد والأحكام الشرعية، أمرٌ ممكن، بل قد يعتبر مصلحة ينبغي التوجه لتحقيقها وتوسيع دائرة العمل عليها، لا سيما وقد أصبحت من الأعراف الدولية والتوجهات المحلية مع مراعاة تصحيح المنطلقات والمفاهيم. وفي مكة المكرمة -شرفها الله- فإن الحفاظ على البيئة المقدسة، وتعزيز مجتمع الأخلاق والمُثل والأعراف العربية والإسلامية، واجبٌ وأولوية منوطةٌ بكل القيادات والمؤسسات المكية، وقد أطلق سمو الأمير خالد الفيصل -حفظه الله- شعار “بناء الإنسان، وتنمية المكان” على الخطة الاستراتيجية لتطوير منطقة مكة المكرمة في مستهل إمارته لمنطقة مكة المكرمة، فأصبح الشعار متداولا في أوساط الجهات الحكومية والخيرية والخاصة، وظهرت مبادرات متعددة ومتنوعة تحت مسمى “المسئولية الاجتماعية أو المجتمعية”، لكنها في كثيرٍ منها قصيرة المدى، بل ربما لا تعدو الارتباط بحدث أو مناسبة، كما أن الحاجة ما زالت قائمة لرؤى وخطط ومبادرات لتحقيق المزيد من الرقي بالإنسان والعناية بالمكان، وبما يحقق التكاملية والاستدامة في مكة كلها، وفي المنطقة المركزية على وجه الخصوص، إذ إنها حرم المسجد الحرام، وضيوفها أهله وجيرانه. ومع النمو العمراني الذي تشهده مكة المكرمة والمنطقة المركزية على وجه الخصوص، وتزاحم الأفراد والمؤسسات والأموال والأعمال الخادمة والمستثمرة في هذه الرقعة الجغرافية، وبهوية محلية وعالمية متعددة الجنسيات، ومتنوعة الأعمال، ومع الخوف من طغيان الأنماط الاقتصادية الجافة التي لا تعي حرمة المكان، ولا تولي القيم والهوية أولويةً أو معياريةً في ممارساتها، من هنا تظهر ضرورة المبادرة لصناعة مفهوم مركزي وتوجه عام، ينظم سلوك الأفراد والمؤسسات والاستثمار داخل هذه الرقعة، لا سيما وسياسات الدولة وتوجهات رؤية السعودية 2030 تدعم هذا التوجه، الذي من شأنه أن يُحسِّن أداء الواجب المنوط بكل القطاعات تجاه هذه البقعة المباركة. وإننا لنأمل أن تسفر جهود الفريق المسئول عن تعزيز الهوية المكية عن بلورة منظور موضوعي واعٍ بالبعد المكاني والزماني، وبحال وفعل الإنسان في هذه البقعة المباركة، كما أراد لها الخالق الحكيم، بعيدا عن الاختزالات والتحيّزات التي لا تليق بالقرى، فضلاً عن أمّ القرى وقِبلة المسلمين.
خالد العماري الزهراني