كأني برمضان ضيف مهم كريم نزل عندنا أياماً معدواتٍ وفترةً مؤقتة، ثم لما اقترب موعد رحيله أخذ يحزم أمتعته استعداداً لرجوعه من حيث أتى.
ولعل أيام رمضان الأخيرة هي الأهم بالنسبة لهذا الضيف رفيع المستوى، فمن فرَّط في أيامه الأولى، ولم ينزله منزلته التي تليق به، ولم يكرم وفادته بما هو أهل له؛ فلعله يستدرك ما وقع من تقصير، ويجبر ما حصُل من تهاون، خاصة وأن رمضان يكون في أيامه الأخيرة أكثر سخاءً وكرماً من بقية الأيام، بما اختصه الله به في العشر الأواخر، من بركات وهبات، وجوائز ومنح، في مقدمتها ليلة القدر التي فُضِّلت على ألف شهر من العبادة!
ولعلنا إذا ودعنا رمضان بتصحيح النوايا وإحسان العمل والاجتهاد في الطاعة أُسوةً بالنبي عليه الصلاة والسلام الذي كان يشد مئزره، ويوقظ أهله، ويحيي ليله؛ لعلنا إذا فعلنا ذلك يغفر لنا ما قد سلف من تفريط وتهاون؛ فالأعمال بالخواتيم، والعبرة بالنهايات.
حُقَّ لنا أن نذرف العبرات على فراق ضيف عزيز طالما آنس وحشتنا، وملأ فراغنا، وجبر كسرنا، وأكرمنا بهداياه السخية، وعطاياه الجلية؛ لكن شتان بين حزن وحزن: بين حزن من اجتهد في رمضان وأحب رمضان فحزن لفراقه، وبين من قصَّر في رمضان وفرط في أيامه ولياليه، فحزن لتفويته الفرصة الثمينة التي قد لا تتكرر في حياته مرة أخرى؛ فالأول يستحق أن يُهنَّأ ويُسأل له القبول، والثاني يستحق أن يُعزَّى ويوبَّخ على تقصيره وتفريطه.
فالفرحة الحقيقية لمن حصَّل التقوى، وفاز بعفو الله ومغفرته، وحاز رضا الله وجنته، وزحزح عن ناره وأعتق منها. وفي الحديث: (لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لقاء ربه) متفق عليه، قال السعدي رحمه الله في تفسير الحديث: (هذا ثوابان: عاجل، وآجل. فالعاجل: مشاهد إذا أفطر الصائم فرح بنعمة الله عليه بتكميل الصيام، وفرح بنيل شهواته التي مُنع منها في النهار. والآجل: فرحه عند لقاء ربه برضوانه وكرامته. وهذا الفرح المعجل نموذج ذلك الفرح المؤجل، وأن الله سيجمعهما للصائم).
وجزى الله خيراً الشاعر مؤيد حجازي الذي قال:
يا خير من نزلَ النفوسَ أراحلُ
بالأمسِ جئتَ فكيفَ كيفَ سترحلُ
بكتِ القلوبُ على وداعك حرقةً
كيف العيونُ إذا رحلتَ ستفعلُ
من للقلوبِ يضمها في حزنها
من للنفوس لجرحها سيعلّلُ
ما بال شهر الصومِ يمضي مسرعاً
وشهورُ باقي العام كم تتمهّلُ
عشنا انتظارك في الشهورِ بلوعةٍ
فنزلتَ فينا زائراً يتعجّلُ
ها قد رحلت أيا حبيبُ، وعمرنا
يمضي ومن يدري أَأَنتَ ستقبلُ
فعساكَ ربي قد قبلت صيامنا
وعساكَ كُلَّ قيامنا تتقبَّلُ
يا ليلة القدر المعظَّمِ أجرها
هل اسمنا في الفائزينَ مسجّلُ؟
كم قائمٍ كم راكعٍ كم ساجدٍ
قد كانَ يدعو الله بل يتوسلُ
أعتقْ رقاباً قد أتتكَ يزيدُها
شوقاً إليكَ فؤادُها المتوكِّلُ
علي صالح طمبل