“حرب الخليج أو الاستعارات التي تقتل”، كتاب عميق في تحليله استشرافي في رؤيته، لجورج لايكوف، ترجمة: عبد المجيد جحفة وعبد الإله سليم، وبرغم أن طبعته الأولى كانت في 2005م، إلا أنه صالح للقراءة إلى ما بعد هذا التاريخ ما دام العالم كلّه يسير تبعًا لتصوّرات استعارية قاتلة تحكمه وتقنعه وتبرمجه عليها.
أجاد جورج لايكوف في تحليل حربي الخليج، الأولى والثانية، من خلال الاستعارات التي تقتل وقرأ الاستراتيجية الأمريكية، في إدارة بوش ٢ آنذاك، ووضع حلولًا موضوعية تستند على القيم الإنسانية العادلة في محاربة الإرهاب، وانتقد السياسة الأمريكية بخطاب تحليلي موضوعي أنصف فيه قيمة الليبرالية التي يؤمن بها، وهي بالمناسبة تعكس قيم الليبرالية غير المزيّفة ولا علاقة لها بما يفهمه الليبراليون العرب الذين لم يتجاوزوا بندها الأوّل في كل أطروحاتهم، أستثني القلة من شرفائهم، وهو البند الذي يؤكد عليه لايكوف بقوله :”تبدأ الأخلاقيات التقدمية /الليبرالية بالتقمّص الوجداني أو العاطفي؛ أي القدرة على فهم الآخرين والإحساس بما يحسّون به”.
هذا الشرط الأوّلي غير حاضر في اللفيف العربي الليبرالي وواقع التأييد الانقلابي المطّرد في خطاباتهم أسوأ شاهد على ذلك. يحلل لايكوف في هذا الكتاب الصغير في حجمه، البنية الاستعارية التي تم من خلالها إقناع الشعب الأمريكي بالحرب ضد الإرهاب متحفّظًا على الانتقائية في النظر إلى أسبابه والاقتصار فحسب على أحد الأسباب الثلاثة، هو الوسائل المخوّلة، أي الأدوات التي استعملها الإرهابيون، دون النظر إلى الأسباب الدينية، والأسباب الاجتماعية والاقتصادية، كما يرفض فكرة إدراج المصلحة الشخصية الوطنية في الحرب ضد الإرهاب، ويرى أن الإدارة الأمريكية صنعت إرهابًا منظّما في مقابل الإرهاب غير المنظم؛ وذلك بتبنّيها الاستعارة المركزية التي هي في الحقيقة استعارة قاتلة وغير محايدة، تلك الاستعارة المتمثّلة في تصوّر إطاري مفاده أن “الأمة شخص”.
تحت تأثير هذه الاستعارة المركزية تتم العلاقات الدولية وتشنّ الحروب ويباد الضعفاء بذنوب غيرهم، ذلك أن مفهوم الاستعارة هنا يقضي بأنّ “الأمم أشخاص”، وبما أن هذه الاستعارة تطبّق على المجتمع الدولي فالأمم هنا منهم أشخاص أقوياء، الدول المتقدّمة، وغير راشدين، الدول النامية، وضعفاء قاصرون، الأمم المتخلّفة، وعلى هذا تنبني الاستعارة في تشييد العلاقات، بالنظر إلى المصلحة الشخصية التي تقابل المصلحة الوطنية في النموذج الاستعاري.
يقول لايكوف :” يكمن أحد أكبر استعمالات استعارة الأمة /شخص تواترا في المحاولات شبه اليومية المعتمدة لتبرير الحرب استعاريًّا وإعطائها صبغة “الحرب العادلة”، وتعتمد فكرة الحرب العادلة على استعارة الأمة شخص وعلى حكايتين لهما بنية الحكاية الخرافية الكلاسيكية: حكاية الدفاع عن النفس، وحكاية الإنقاذ” .
و يكمن خطر هذه الاستعارة في تبريرها الحرب دون النظر إلى التفاصيل التي تخفيها، فالنظر إلى التفاصيل ينقض رؤيتها الإجمالية الظالمة، حيث يؤخذ غير المذنب بجرم المذنب، ذلك أن المجتمع كلّه يقدّم على أنّه “شخص واحد” ينبغي الانتقام منه، فيدخل تحت هذا “الشخص / الأمة” أفراد كثر، يمكن تمثيلهم هنا بالشعوب البريئة التي لا شأن لها بخيار الحرب، وهذا ما فعلته أمريكا في العراق، فبحسب لايكوف “يستعمل المواطنون الأمريكيون العاديون هذه الاستعارة عندما ينتجون تعابير من قبيل :(صدام حسين طاغية ينبغي إيقافه)، وما تخفيه هذه الاستعارة هو أن الثلاثة آلاف قنبلة ،….، لن تسقط على هذا الفرد. إنها ستقتل بضعة آلاف من الناس الذين تخفيهم الاستعارة، هؤلاء الناس الذين لا تشنّ عليهم الحرب تبعًا لهذه الاستعارة” . يخلص لايكوف بعد رحلة ممتعة من التحليل الاستعاري تكشف عن علاقة الاستعارات القاتلة بالحرب كما تكشف استعارات الرعب في فصل مستقلّ خصصه لقراءة حدث ضرب برجي التجارة، يخلص إلى أمرين مهمين هما أن “توضيح ما يجري يمكن أن يغيّر ما يجري ، على الأقل في المدى البعيد” هذا أولا، و ثانيا على الحركة المضادة للحرب “أن تملك منظورًا أخلاقيًا واضحًا يقوم على قيم بدل مصالح تحدد توجهها السياسي”.
أضع هنا نقطة في نهاية السطر لأغلق كل ما يتعلق بالرؤية المعتدلة والتحليل العميق للفكر الاستراتيجي الاستعاري للحرب الذي طرحه لايكوف باقتدار، و أتساءل إن كان لا يزال الفكر الاستعاري القاتل وتحت غطاء منظّم للامبريالية الأمريكية مستمرًا يغذّي الأحداث إلى اليوم ؟ أم أنه تحقق السلام للعالم منذ أطلقت صيحة الحرب على الإرهاب ؟ لا شك أن مسرح الأحداث اليوم صار أكثر تعقيدًا من قبل عشر سنوات، و أنّ الاستعارات القاتلة قد ازدادت كثافة بحيث تحتاج إلى تحليل وتفكيك جديد يعيد قراءة الصورة العالمية بعد أن تشابكت أطرافها واتسعت مساحة الفوضى في العالم، وهو عين ما توقّعه لايكوف قبل حرب الخليج الثانية حين قال متسائلا:” إنَّ هذه الحرب عَرَضٌ لداء أوسع. وستنشب المعركة لمدة طويلة، فمتى ستنطلق الحركة المضادة للحرب؟”.
في تصوّري الخاص لا أتوقّع إلا مزيدًا من الفوضى في ظل التطفيف الذي نلحظه في العالم اليوم على كل المستويات، حتى فيما يخصّ الجانب الديموقراطي الذي يفترض أنّه الوجه الأجمل للثقافة الغربية، ومع ذلك نقرأ سقوطًا ذريعًا في المبادئ والقيم سواء على مستوى السياسة الغربية التي تبارك الديمقراطية في مجتمعاتها، في حين تدعم بالرأي الانقلابات العسكرية في الدول العربية / الأمم الأشخاص الضعفاء بحسب الاستعارة، أو كان ذلك على مستوى الليبرالية العربية فيمن يمثّلها من الأدعياء من مفكّرين وإعلاميين حين يسيرون باتجاه مضادّ لكل ما يدّعونه من قيم ديموقراطية زائفة !