دعونا نبدأ بهذه الواقعة التي كنت شاهدًا عليها .. فذات مرة دعينا نحن الصحفيين إلى مؤتمر صحفي تجاري, عُقد بأحد فنادق جدة، بمناسبة إطلاق منتج إليكتروني يدخل لأول مرة إلى السوق السعودي، الضيف الكوري الجنوبي ممثل الشركة الصانعة للمنتج، قام في البداية وألقى كلمته، وظننا أنها ستكون في حدود عشرين دقيقة تقريبًا. لكن المفاجأة التي عقدت ألسنتنا, أن “كلمة” الضيف الكوري كانت في حدود ستة أسطر تقريبًا (تم توزيعها علينا فيما بعد) .. إلى أن جاءت بعد ذلك “خطبة” ممثل الشركة هنا في المملكة من إخواننا السعوديين، فأخذ بناصية الميكرفون ليتحدث كثيرًا وطويلًا حتى مللنا منه، ساردًا جميع ما كتبه في ثلاث ورقات تقريبًا. عندها تأكدت ومن معي، كيف ولماذا نجحت كوريا الجنوبية, ومعها بقية منظومة دول النمور الآسيوية في اقتحام عالم الصناعة والتجارة والإلكترونيات، بعد أن “وفروا” الكلام لغيرهم, وتفرغوا لـ “العمل” فقط* .
هذه الحكاية الظريفة تذكرتها وأنا أقرأ قبل فترة، شيئًا يُثير العجب حقًا، وسبب ذلك أن وزارة التعليم عندنا سبق وأن أعلنت على رؤوس الأشهاد قبل سنوات, أنها قررت إسناد المقاصف المدرسية إلى شركات متخصصة, ضمن اهتمامها بتغذية وصحة أبنائنا … إلخ الديباجة المعروفة والتي تتكرر من مسؤولينا عادة. لكن الذي حدث أن شركة (…..) قد عجزت عن أداء دورها, ثم بعد أن فشلت انتقلت تركة المقاصف إلى شركة (…..) ثم إلى (……) وظل أبناؤنا حقلًا للتجارب . * وإذا شئتم مثالًا آخر، فإليكم على غرارها .. فقد صرح لي ذات مرة ” رئيس بلدية جدة”الأمين – الآن ” حينذاك , باقتراب إقامة مشروع حديقة حيوان فريدة من نوعها في جدة, وأنها ستكون الأضخم في الشرق الأوسط .. فأين هي الحديقة الآن ؟ .. حيث لا ترى عيوننا حاليًّا لا أضخم, ولا حتى … أصغر . * ولو كانت المساحة هنا تسمح لقدمنا أمثلة أخرى، ولكننا نخلص إلى أننا لا نقصد هاتين الجهتين تحديدًا، ولكننا نقصد التصريحات والوعود، التي تتطاير في الهواء فيتلقفها الناس، ويزهو بها المواطن فرحًا ونشوة، ثم عندما يحين موعد ” الله .. الله ” لا تجد منها على الأرض غير ” السراب”.
وأظن أن المطلوب – الآن – ليس تقنين التصريحات, ولا حتى ترشيدها .. بل المطلوب هو انتهاج فكر آخر مختلف, وهو سياسة الهرم المقلوب, مما لا يتسع المجال لشرحها مفصلة هنا, بحيث نعمل كثيرًا ونتكلم قليلًا .. إن كنا – حقًّا – نريد مزاحمة دول العالم على الصدارة .
بخيت طالع الزهراني