طارق فقيه

المقصلة

يومًا بعد يوم تُبرهن وسائل التواصل الجديدة أنها قصَب السَبْق وكلمة السر في هذا العالم الغريب رغم الجانب المظلم لها الذي يؤثر سلبًا على سلوكيات بعض البشر، وتدفعهم بقوة إلى مالا يحمد عقباه من عزلة واكتئاب وعنف وانفتاح على العالم الآخر بخيره وشره شأنها في ذلك شأن أغلب المخترعات الحديثة. ورغم ذلك كان لهذه الوسائل جوانب مشرقة عديدة لا يمكن إغفالها أو تجاهلها، فبفضلها أصبح المجتمع هو الرقيب وهو المدّعي العام وهو شهود الحال، وهو فريق الدفاع عن الحق والدين والمبادئ والمثل، وهو أيضًا المحكمة المستعجلة التي تصدر أحكامها بلا تعطيل ولا مماطلة، ولم تعدْ عقول البشر رهينة لصحيفة أبو ريالين، أو شاشات الفواصل الإعلانية للفوط النسائية، بل أصبح الناس عبر وسائل التواصل الجديدة المتوفرة يستطيعون التفاعل والرد والتعبير ويراقبون وسائل الإعلام التقليدية ويحاكمونها، بل ويتجاوزون ذلك بمراحل إذ يستطيعون فرض إرادتهم وحماية مكتسباتهم.

والشواهد والدلائل أكثر من أن تحصر، ويكفي أن نستشهد هنا بما شاهده سكان الأرض قاطبة من تأثير أحد هذه الوسائل في اثنتي عشرة ثانية فقط على إفشال انقلاب كاد أن يعصف بأمن واستقرار تركيا، ويقضي على حكومتها الشرعية التي ارتضاها الشعب، وهي أقوى ما قدمته هذه الوسائل الحديثة من خدمات للإنسانية حتى الآن .

وخلال أربع وعشرين ساعة فقط استطاع مجتمعنا وباستخدام وسائل التواصل إجبار كاتب صحفي على تقديم اعتذاره للشعب عن سقطته الشنيعة بحق أمهاتنا، كما دفعوا وزارة الإعلام لإصدار قرارها بإيقافه عن الكتابة . وخلال ساعات فقط أجبرت نفس الوسائل صحيفة ورقية أمضت في المجال الإعلامي أكثر من نصف قرن على إعلان اعتذارها لقرائها عن “الجرافيك” المُسيء لثورة شعب مسلم ضد حكومة نصيرية ظالمة قتلت حوالي نصف مليون من الشعب، وشردت أضعاف مضاعفة منهم. ولم تتوقف مكاسب هذه الوسائل عند هذا الحد، بل تعدتها لفضح الأنظمة القمعية التي تُمارس الإعدامات بحق الأبرياء دون محاكمات وكشفت عنها الأقنعة وفضحتها أمام العالم، كما كانت الأسرع والأوثق في نقل أخبار القتل والتدمير الذي يمارسه النظام الحاكم في سوريا بدعم الروس وإيران، ونقلت بنفس الموثوقية أخبار هزيمتهم في حلب وانتصارات الشعب السوري على قوى الطغيان والتسلط .

ونجحت هذه الوسائل من قبل في إقالة مسؤولين قصروا في أداء واجباتهم، وزلزلت كراسي مسؤولين لم ينجحوا في إقناع المجتمع بفكرهم وخططهم المستقبلية، كما ردت بقسوة على كل من استخف بالمجتمع أو وسم أبناءه بصفات لا تليق بهم حتى أشفقنا عليهم، وقلنا: “ليتهم سكتوا”، كما عرت هذه الوسائل كتاب صحف عشعش العنكبوت في أعمدتهم الصحفية وكشفت لنا ضحالة ثقافتهم وركاكة لغتهم، وأصبحوا محل تندر وتعليقات المجتمع.

يقولون في المثل الشعبي: “يا ويل من قعدوا له الرجال”، ويُقال أيضًا :” من ألف فقد استهدف”؛ ولذلك فإن وسائل الإعلام الجديد هي أشبه بمقصلة يعلق عليها كل من يعتقد أن لا صوت مسموع إلا صوته، وأن الرأي حكر عليه لأنه ذو حظوة في صحيفته أو شاشته، أو اغتر بمنصبه أو ماله أو جاهه، فلا أحد فوق النقد، والفضاء يتسع للجميع، ولكل صوت صدى، والكلمة الصادقة ستصل أسرع وأقوى مما يظنون .

طارق عبد الله فقيه

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. اذا الشعب يوما اراد الحياه ….

    وسائل التواصل الجديده خير شاهد ان البلد يملك كفاءات اداريه فنيه عمليه تحتاج الى الفرصه لتبرز ويعلوا صوتها الصحيح السليم على بعض المسلمات التي اكل عليها الدهر وشرب ….

    رائع ايها الكاتب الفاضل

  2. سلمت يمينك وقلمك أبا عبد الله.
    فقد أفدت وأجدت.
    وفقك الله وزادك من فضله ونفع بقلمك الصادق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى