المقالات

ضيَّعناك وضعنا معاك..!!

كثير من الناس يرى أن حل المشاكل والمعضلات التي تمرُّ بها البلاد يكمن في إحداث تغيير في السلطة أو انقلاب عليها، أو الخروج في مظاهرة تطيح بها!

وهكذا يختزل الكثيرون التغيير في تغيير الحكام الذي جربته كثير من الشعوب، وجربناه نحن في السودان حين انقلبنا على حكومتي “عبود” عام 1964م، و”نميري” عام 1985م، ثم خرجنا في الحالتين نهتف متحسرين على ذهابهما قائلين “ضيَّعناك وضعنا معاك”!

وجرب المتظاهرون في الربيع العربي الذي اجتاح سرابه الخادع عدة دول عربية، جربوا الخروج على الحكام والإطاحة بالحكومات؛ فكانت المحصلة أن غرقت تلك البلاد في الفوضى، وساد فيها إراقة الدماء وانتهاك الأعراض وضياع الأموال، وسيطرت عليها حكومات أسوأ من سابقاتها!

ولو أتيحت لهؤلاء المتظاهرين فرصة لهتفوا مثلما هتف شعب السودان من قبل: “ضيّعناك وضعنا معاك”، ولو عادت بهم عجلة الزمان إلى الوراء لما اختاروا خيار التظاهر وتغيير الحكومات!

وكان السودانيون الذي عركوا الانقلابات وجربوا المظاهرات أكثر حصافة حين امتنعوا عن مجاراة موجة الربيع العربي – الذي أصبح فيما بعد “خريفاً عربياً” – وحين استفادوا من تجاربهم واتعظوا بغيرهم.

وكثير منا يريد للحكومات أن تتغير ولا يريد أن يتغير على صعيده الشخصي، ويريد أن يخرج في مظاهرات على السلطات، ولا يريد أن يخرج في مظاهرة على نفسه التي بين جنبيه، ويريد أن يحُدث انقلاباً على الحكومة، ولا يريد أن يُحدث انقلاباً في حياته، ولا تغييراً في سلوكه!

وإذا سألت أحدهم: هل صححت عقيدتك وأصلحت ما بينك وبين الله، فأفردته وحده بالعبادة دون غيره ولم تعتقد النفع أو الضر في سواه؟ هل اتبعت هدي النبي صلى الله عليه وسلم في نفسك وأهلك دون ابتداع ولا تفريط؟ هل صليت الصبح اليوم في جماعة؟ هل تحليت بمكارم الأخلاق، من حياء وكرم ومروءة؟ وهل تجملت بمحاسن الصفات، من صدق وأمانة وعفة؟ وهل ناديت بهذه المعتقدات والأخلاق والقيم بين أهلك ومعارفك أم فرطت في مسؤوليتك تجاههم؟… لو سألته مثل هذه الأسئلة لتوالت إجاباته بالنفي! هذا إن كان صادقاً!

فمن كان هذا شأنه فالأولى له أن يبدأ بتطويع نفسه وتغييرها قبل مطالبته بتغيير غيره، وأن يشذبها ويروضها بما يجعلها مستقيمة وفق المنهج الرباني الذي يرضي الله جل وعلا. ومن كان عاجزاً عن تغيير نفسه التي بين جنبيه وكان أسير الهوى والمزاج، فمن باب أولى أن يعجز عن تغيير غيره.

فالتغيير الحقيقي يبدأ بالنفس، وهذا مقرر في السنن الكونية التي لا تحابي أحداً؛ لقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) [الرعد:11]، فمن كان يريد تغيير الآخرين فمن باب أولى أن يبدأ بتغيير نفسه، وإلا لكان يقول ما لا يفعل، ويطالب بما لا يكون قدوة فيه.

وليس من المعقول أن تطالب الآخرين بالعدل وأنت ظالم لنفسك ولغيرك، ولا أن تطالبهم بالصدق وأنت تكذب على الله وتغش الناس! وهل يحالف مثل هذا توفيق من الله عز وجل؟! وهل يكون جزاء هذا الظالم إلا أن يسلِّط الله عليه ظالماً مثله كما قال تعالى: (وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأنعام: 129].

والناظر لمعظم بلاد المسلمين يجد أن هناك ظلماً واقعاً من الحكام على المحكومين، ونحن لا نريد أن نقر بالظلم، فالله عز وجل حرَّم الظلم على نفسه وجعله محرماً بين الناس، ولكننا ندعو للبحث عن السبب الحقيقي لهذا الظلم وإيجاد حل جذري استناداً على ما جاء في الكتاب والسنة، فحين ظلم كل منا نفسه بمعاصي القلوب والجوارح وظلم من استرعاه الله رعيته من الأبناء والمرؤوسين والعمال، وحين اعتدى بعضنا على بعض في الدماء والأموال والأعراض؛ جعل الله بأسنا بيننا شديداً، وسلط علينا حكاماً يقسون علينا ولا يرحموننا، وما ذلك إلا بسبب الذنوب والمعاصي.

ومصداق ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إذا تبايعتم بالعِينة (الربا) ورضيتم بالزرع وأخذتم بأذناب البقر وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم) رواه أحمد وأبو داود.
إذن لا مخرج مما نحن فيه إلا بالعودة إلى ديننا الحنيف واتباع ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتصحيح العقيدة وإفراد الله تعالى بالعبودية، فضلاً عن تعزيز الإيمان والتقوى في النفوس؛ لقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف: 96].

فلو بدأ كلٌّ منا بنفسه فغيَّرها، وروَّضها، وأطّرها على الحق أطراً؛ لانصلح حالنا حكاماً ومحكومين، ولحصَّلنا الفلاح في الدنيا والآخرة؛ وكل محاولة للتغيير لا تستصحب معها تغيير النفوس فهي تضييع للوقت، وإهدار للجهد فيما لا طائل من ورائه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى