لسان حال كثير من الآباء والأمهات اليوم يقول لابنه أو ابنته: (لأني أحبك أفسدتك)! فإذا كبر الابن فأصبح عاقاً، أو فاشلاً، أو منحرفاً عن الجادة؛ تحسر والداه وعضا بنان الندم! ولكن ولاتَ ساعة مندم!
******
فكم من أبٍ أو أمٍّ اهتمَّا بطعام أبنائهما وشرابهم ولبسهم وتعليمهم، ولم يقصِّروا في ذلك، ولكنهم في المقابل أهملوا تعليمهم العقيدة الصحيحة، والأخلاق الحميدة، والآداب الرفيعة، فعُنوا بالظاهر وأغفلوا الباطن مع أهميته! فكان أبناؤهما فريسة سهلة لأصحاب العقائد المنحرفة، وأهل الأهواء والإغواء، وأصدقاء السوء!
*****
وكم من أب أو أمِّ لم يعوِّدا أبناءهما على أداء الصلاة منذ صغرهم بدعوى حبهم والإشفاق عليهم، فكانوا يصلُّون الصبح ويتركونهم يغطون في نوم عميق حتى تطلع الشمس، ويذهب الأب إلى المسجد ويترك أبناءه يلعبون أو يشاهدون التلفاز، دون أن يصطحبهم، بدعوى أنه يحبهم ولا يريد أن يقطع عليهم لعبهم وتسليتهم! مع أن الله جل وعلا يقول: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ۗ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ) [طه: 132]
******
والعجيب أن ذات الأب أو ذات الأم لا يتورعان عن إيقاظ أبنائهم في وقت مبكر إذا تعلق الأمر بالدراسة أو العمل! فإذا كان اليوم يوم دراسة أو عمل أيقظوهم، وإذا كان يوم عطلة تركوهم ينامون ما شاء الله لهم أن يناموا، دون إيقاظهم للصلاة التي هي عمود الدين وأهم من الدراسة والعمل!
******
وكم من أبٍ أو أمٍّ تركا أبناءهما يشاهدون ما شاؤوا على شاشات القنوات الفضائية والجوالات ومواقع الإنترنت والتواصل الاجتماعي، دون رقابة ولا توجيه، بدعوى أنهما يحبونهم وأنهم ما زالوا صغاراً على التوجيه والرقابة! فكان أن تشرَّبوا ما يُبَث عبر هذه الأجهزة من شبهات وسموم، ففسدوا وأفسدوا!
******
وكم من أبٍ أو أمٍّ لم يدقِّقا في صحبة أبنائهم أو بناتهم، ولم يحرصا على أن يختاروا لهم الصحبة الصالحة التي تعينهم على الخير وتحضهم عليه، فكان أصدقاء السوء سبباً في إفسادهم وانحرافهم! والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل) رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
******
وكم من أبٍ أو أمٍّ تركا ابنتهما تلبس ما تشاء؛ حتى لا يغضبوها أو يشددوا عليها أو يصيبوها بالعُقد على زعمهم، فَفَتَنَتْ أصحاب القلوب المريضة، وكانت هدفاً للذئاب البشرية وما أكثرها! وقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) [الأحزاب: 59].
******
يُروى أن رجلاً جاء إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه (وإن كان في سند القصة مقال) يشكو إليه عقوق ابنه، فأحضر عمر رضي الله عنه ابنه, وأنَّبه على عقوقه لأبيه, فقال الابن: يا أمير المؤمنين, أليس للولد حقوقٌ على أبيه؟ قال: بلى, فقال: فما هي يا أمير المؤمنين؟ قال: أن ينتقي أمه، وأن يحسن اسمه، وأن يعلِّمه القرآن فقال الابن: يا أمير المؤمنين, إنه لم يفعل شيئاً من ذلك، أما أمي فإنها زنجيةٌ كانت لمجوسي، وقد سماني جُعْلاً – أي خنفساء – ولم يعلمني من الكتاب حرفاً واحداً. فالتفت أمير المؤمنين إلى الرجل, وقال له: أجئت تشكو عقوق ابنك؟ لقد عققته قبل أن يعقَّك، وأسأت إليه قبل أن يسيء إليك!
******
الحب الحقيقي هو الذي يجعل الآباء والأمهات يختارون ما يصلح أبناءهم في الدنيا والآخرة في موازنةً بين الدين والدنيا؛ امتثالاً لقوله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) [القصص: 77].
******
والحب الحقيقي قد يجعل الأب أو الأم يقسوان أحياناً من أجل مصلحة ابنهما – أو ابنتهما – فيحرمانه من أشياء يحبها أو يلزمانه بما يكره، كالطبيب الذي يُجري للمريض عملية جراحية من أجل شفائه، أو يعالجه بدواء مرّ المذاق يلفظه ولا يستسيغه؛ فالأولى بالحب أن يصلح لا أن يفسد، وأن يقوِّم ويبني، لا أن يهمل ويهدم.
******
فيجب على الأب والأم أن يعملا أول ما يعملان على وقاية أبنائهم من النار يوم القيامة؛ لأنهما راعيان ومسؤولان عن رعيتهما يوم القيامة، قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم: 6].
وشتَّان ما بين التقويم في الصغر الذي يكون فيه الطفل طيِّعا كالعجينة سهل الانقياد، وبين التقويم في الكبر الذي يصطدم بالعناد والتعنت. ورحم الله من قال:
إن الغُصُونَ إِذا قَوَّمْتَها اعتدلْت
ولا يلينُ إِذا قَوَّمْتَهُ الخَشَبُ
علي صالح طمبل