العرض المسرحي بعيدًا عن السيطرة – التجريب على جناح المتعة
رؤية / ناصر بن محمد العمري
بروشور مصمم بطريقة لافتة جدًا، يظهر فيه فريق العمل بنصف غترة ونصف عقال غطى رؤوس الجميع، تستقبل الجمهور فوق مقاعدهم. كانت تلك لحظة مصافحة أولى للجمهور مع مسرحية (بعيدًا عن السيطرة) تولد معها شعورًا جازمًا بأن هناك جدية متناهية في البحث عن لحظة مختلفة مع المتلقي؛ لبدء عرض مسرحي، وفي ذات الوقت تسرب إليَّ إحساس بأن العرض بدأ فعليًّا حتى قبل انطلاقه فوق الخشبة عبر الزج بنا في غابة الأسئلة التي تفرضها أغلب العروض التي تقدمها ورشة العمل المسرحي بالطائف. ومنذ تلك اللحظة استشرفت تكاتف الأيدي والجهود المسرحية للوصول إلى عرض يليق بخشبة المسرح، لكن لم ألبث أن تربَّصت بي الأسئلة حول البروشور ذاته، حين قلبت لصفحة وقرأت كلمة المخرج سامي صالح الزهراني التي تختصر حكاية العرض. توجسّت حينها من أن تجعلنا كلمة المخرج نفقد جزءًا من لذة التلقي. هذا الشعور نقلته للصديق الساخر (محمد السحيمي) الذي كان يجاورني في قاعة فهد ردة والذي أكد لي أن ذات الشعور قد خالجه، إلا أن المشهدية العالية للعرض منذ اللحظة الأولى بددت توجسنا وجعلتنا لمدة ساعة مشدودين لعرض مبهر دون أن نستطيع التغافل عنه ولو لحظة واحدة تبعًا للإبهار الكبير الذي كان عليه العرض.
حدوتة العرض تدور حول معاناة شخصيات روائية بعد مغادرتها صفحات الروايات وانتقالها إلى الواقع الحقيقي لترفض العودة إلى مكانها، ما أدى إلى فقدانها لجمالها لتصبح مشوهة مكروهة. واستغل الحارثي شخصياته لتوجيه رسالة إلى الجمهور يحثهم فيها على ضرورة القبض على شخصياتهم الواقعية والاحتفاظ بها؛ لكي لا تهرب منهم ولا تعود لهم. ليست الحكاية بمفردها كانت سر العرض من خلال انتظار مصائر الشخوص بل مُعظم ما في العرض كان محرضًا على المتابعة، بدءًا من الأثاث المسرحي الخفيف فوق الخشبة الذي جاء توزيعه واختيار ألوانه محسوبًا بعناية وكان توظيفه سينمائيًّا لخدمة الفكرة عاليًّا جدًا، مرورًا بحضور الممثلين الذين كانوا ضيوفًا خفيفي الظل على جمهور مسرح الجنادرية وقاعة فهد ردة الذي واصل الإنصات والمتابعة للعرض من دون أن يُمِل رغم طول مدة المشاهدة نسبيًّا .
الموضوع هنا في تقديري كان له علاقة ظاهرة بالفهم الصحيح لمختلف مفاصل العرض بالمجمل من قبل ممدوح الغشمري، وبدر الغامدي، وسامي صالح، وعبدالرحمن المالكي، والتماهي العالي مع الشخصيات التي يؤدونها كما أن جودة السينوغرافيا واستغلال الفضاء المسرحي جاءت كملامح ظاهرة وبارزة في هذا العرض زادت من جماليته بشكل كبير فيما يتأتى دور التعبير الجسدي في توصيل الحالة الفنية. (بعيدًا عن السيطرة) جاء كتأكيد عملي على مضامين مسرحية عديدة جدا من بينها دور الحركة في إضفاء الدهشة على العرض، وقد شاهدنا كيف أن الحركة تبدو وكأنها هي اللغة الإضافية التي تضافرت مع الإشارات والإيحاءات والعلامات والأدوات المتاحة لمحاكاة المتفرج ..
فأسلوب أداء الممثلين الواقعي جدًا، وتحركاتهم فوق الخشبة وتكويناتهم الجسدية وقدراتهم العالية في التقليد وإجادة الأدوار والحركة السلسة وقدرتهم على إتقان فيزيائية الجسد ساهم في خلق مشهدية بصرية معبرة حيث كان للجسد نصيبًا كبيرًا في هذا العرض وكان لغة أساسية صاحبت الحوارات، فاستطاع الممثلون أن يتلاعبوا في الحوارات بأجسادهم، راسمين لوحة فنية مبهرة على خشبة المسرح تُحيلنا في مجملها إلى أصل حكاية العرض؛ حيث مناوئة الواقع والتمرد عليه واقع يفرض نفسه مايبرز أهمية القبض على شخصياتنا من أن تغادرنا والتي كانت أهم رسالة للعرض . الضوء والخلفيات والحوارات خلقت تناميًّا مدهشًا ومعبرًا وباحترافية عالية وساهمت في ملء الفراغات الزمنية التي يشغلها زمن العرض الممتد نسبيًّا بحوارات واعية ومشهدية بصرية لافتة تجعلك تشعر أنك تشاهد عرضًا مكتملًا يستحضر كل فنون المسرح، ويستدعي بتمكن كل عناصر الإبهار البصري والأدائي.
* حضور خيال الظل والاشتغال عليه وتوظيفه المميز بوعي من خلال زرع شاشة في منتصف عمق الخشبة، كانت بمثابة مساحة بصرية تأخذنا من سياق الحكي عن المؤلف الراحل، إلى المشاهدة، وعبرها مزج بين الحقيقي والمتخيل، وجاءت لتشكل نافذة سحرية تدخل وتخرج منها الشخصيات بأريحية تامة وعبر حل إخراجي مبهر لضرورة درامية؛ ما جعل من مشهد عودة الشخصيات إلى الكتب وخروجهم منها إلى الواقع لحظات فارقة في هذا العرض، ولعلها كانت أشبه بمحك حقيقي واختبار عملي لقدرات المخرج ( سامي صالح الزهراني ) ومدى تمكنه من مقاربة هذه العوالم مسرحيًّا فوق الخشبة. حيث تمثل تلك اللحظة (الفانتازيا) و (اللامعقول) في حكاية العرض الذي يتحدث عن شخصيات غادرت الكتب واستعذبت الواقع ورفضت مغادرته، ومارست التمرد ماجعل للحكاية لذة وللمشهد المسرحي برمته معنى عامر.
* السينوغرافيا والإضاءة وأداء الممثلين والحركة والتشكيلات تضافرت مع الحكاية لتخلق نموًا مستمرًا في المشاهد بتناغم كبير مشكلة معًا لوحة مسرحية متكاملة خلقت سلاسة عالية سواء في المشاهدة أو الامتاع أو الإيقاع الذي يمكننا وصفه بالمميز والعالي، وإجادة المخرج بكفائة. وجسده الممثلون وأكدته السينوغرافيا والإضاءة والتي خلقت سحر العرض وأكملت سحر الحكاية؛ حيث كنا في لحظة ما نشعر وكأننا أمام فريق كرة قدم يتناقل الكرة بسلاسة وانضباط عالي حيث الانتقال بين المشاهد مريح بصريًا وتسليم واستلام الحوارات بين الممثلين جاء بشكل لافت وفي منتهى السلاسة فيما تنقلات الممثلين وتحركاتهم وتشكيلاتهم كانت شديدة الإيحاء والدهشة والتعبيرية. فيما الأداء الفردي يصعب أن تجد فيه ماهو ناتيء أو تلحظ فيه نشاز. ولعل القدرات العالية كانت السمة الأبرز للمخرج والمؤدين وكاتب النص ( شكسبير المسرح السعودي فهد ردة الذي يكتب نصوصًا حداثية وفكرية ويناقش بها موضوعات وقضايا آنية عبر حلول كتابية حديثة ) تجعلنا أمام خشبة مسرح مثقفة وضاجة بالأسئلة مستلهمة قيم العصر مستوعبة أسئلته الكبر.