الشعب القاريء :
خلال دراستي في موسكو في الستينات ، لفتت نظري ظاهرة ، نادراً ما نجدها في بلد آخر ، على هذا النحو الصارخ ، وهي أن الروس رجالاً ونساءاً ، شيباً وشباناً ، يقرأون الكتب والصحف بنهم لا نظير له. ليس في المكتبات العامة والبيوت ، والمدارس والجامعات ، أو المكاتب فحسب ، بل في كل مكان : في وسائط النقل ، وفي طوابيرالأنتظار في المتاجر. وفي المنتجعات . وكان الروس يتفاخرون عن جدارة بأنهم الشعب الأكثر قراءة في العالم . ولا تهدف القراءة عندهم الى تمضية الوقت أو التسلية ، بل أن المثقفين منهم يعتبرون الكتب زاداً فكرياً وروحياً لا غنى عنه للأنسان . ولا زلت أذكر العبارة المنقوشة فوق بوابة ” قصر الثقافة ” التابعة للجامعة التي درست فيها : ” تذكر أيها الطالب ان عليك التزود بالثقافة ، لأنك لن تصبح إنساناً متكاملاً بالعلم والتكنولوجيا فقط “ . كما أن المناهج الدراسية في شتى مراحل التعليم تتضمن قراءة وتحليل أهم ما أنتجه الفكر الإنساني من آداب وفنون . والروس مغرمون بتشبيه معارفهم وأصدقائهم بأبطال القصص والروايات من حيث طبائعهم وملامحهم . وهم يتخذون الكتّاب والشعراء مثلاً في حياتهم الروحية ، ويتابعون كل ما يتعلق بنتاجاتهم ويومياتهم ورسائلهم وعلاقاتهم الأدبية والشخصية ، سواء الأحياء منهم أم الأموات . ويزورون المتاحف التي كانت يوما ما مساكن لهم ،والتي تضم أعمالهم الأدبية المنشورة والمخطوطة ومسودات نتاجاتهم ، ومراسلاتهم ، وصورهم في مختلف مراحل العمر ، وكل ما يتعلق بهم . وهم يصغون باهتمام بالغ الى آراء الكتاب والشعراء ، ويوجهون اليهم الأسئلة حول نتاجاتهم خلال اللقاءات ، التي تجري معهم سواء في قاعات الأحتفالات أو في وسائل الإعلام .
رحيل أي كاتب أوشاعر معروف على المستوى القومي يعد خسارة عظمى عند الروس ، لأنهم يعتبرون الكاتب أو الشاعر معلماً للشعب. لذا فأن السلطة السياسية كانت وما تزال تتوجس من الكتاب كثيراً وتراقب أعمالهم .
الحالات التي نوردها ، في الفقرات اللاحقة عن مصائر عدد من ألمع الكتّاب والشعراء الروس المعروفين لدى القاريء ، تعد غيضاً من فيض ، ولكنها تكفي للأبانة عن حال الأدب والأدباء في روسيا في الماضي القريب .
الموت واحد وان تنوعت اشكاله :
جرت العادة في روسيا عبر التاريخ أن يكون الشعراء من المعذبين في الأرض لأن الشاعر في روسيا هو أكثر من مجرد شاعر. لذا نتحدث أولاً عن تلك الفواجع ، التي ألمّت بالشعراء الكبار.
الكساندر بوشكين ، أعظم شاعر روسي ، على مر العصور ، تم نفيه مرتين ، واصيب بجروح بليغة خلال مبارزة غامضة مع البارون جورج دي غيكّرن في 27 يناير 1837 ، وتوفي بعد ذلك ببضعة أيام .
ميخائيل ليرمنتوف ، احد أهم الشعراء الروس بعد بوشكين. له العديد من الروائع الأدبية نثراً وشعرا . كتب وهو متأثر بمصرع بوشكين قصيدة احتجاجية رائعة بعنوان ” مصرع شاعر ” ، هزت روسيا من أقصاها الى أقصاها . وحفظها ورددها المعاصرون مما أثار غضب السلطات التي قررت اعتقاله ونفيه إلى منطقة القوقاز . كانت حياته قصيرة خاطفة كالشهاب ، حيث قتل خلال مبارزة مع نيكولاي مارتينيف في 27 أيلول 1841 ، عن عمر بلغ 27 عاماً. ويعتقد على نطاق واسع أن ليرمنتوف قتل برصاصة أخرى غير رصاصة مارتينيف . وعندما سمع القيصر نيكولاي الأول بمصرع الشاعر، قال شامتاً : ” الكلب لا يستحق سوى ميتة الكلاب ” . وثمة شكوك بأن بوشكين وليرمنتوف قتلا بأمر القيصر تحت ستار المبارزة .
اما فيودور دوستويفسكي فقد حكم عليه بالإعدام لنشاطه الثوري ضد النظام القيصري ، ثم تم تخفيف الحكم في آخر لحظة الى السجن مع الأشغال الشاقة لمدة عشر سنوات ، تلك السنوات التي راحت هدراً ،من دون كتابة . ولا يزال سر موته المبكر لغزا.ً
بعد ثورة اكتوبر 1917 هاجر عدد كبير من خيرة المثقفين الروس من علماء ومفكرين وفلاسفة وكتاب وشعراء وفنانين الى خارج البلاد . ومارس النظام الستاليني ضد من بقي منهم في البلاد شتى صنوف الترهيب والترغيب والترويض والإغراء .
مات الشاعر الروسي الكبير الكساندر بلوك في عام 1920 بعد ان رفضت البلاشفة السماح له بالسفر الى الخارج لتلقي العلاج .
الشاعر سيرغي يسينين شنق نفسه في فندق ( انكليتير) في لينينغراد ( بطرسبورغ حاليا) يوم 31 كانون اول 1925 وهو في الثلاثين من العمر . ومنذ ذلك اليوم لم تنقطع التكهنات بضلوع ستالين في قتله ، وهو الشاعر الأكثر شعبية والقريب الى قلوب الروس ، الذين يحفظون شعره العاطفي المؤثر . و قد ترك في الغرفة التي شنق نفسه فيها قصيدة مكتوبة بالدم ، لأنه لم يجد حبراً فجرح معصمه وكتب قصيدته ، التي يقول فيها: ” ليس جديداً في هذه الحياة أن نموت / وليس جديداً بالتأكيد أن نعيش ” . وكان لرحيله ،وهو في ذروة إبداعه الشعري أصداء هائلة في روسيا ، فقد وصفه بوريس باسترناك قائلاً : ” لم تلد الأرض الروسية مَن هو أكثر محلية ، وأكثر عفوية ، مَن هو أكثر وطنية و أفضل توقيتاً ، مما هو سيرغي يسينين . وقال مكسيم غوركي :إن يسينين ما هو بالإنسان قدر ما هو كائن خلق من اجل الشعر حصرا. إما يفجيني يفتوشينكو فقال فيه: إن يسينين لم ينظم أشعاره بل لفظها من أعماقه.
وعقب انتحاره انتشرت بين الشباب الروسي موجة من حوادث الإنتحار ، فشنت السلطة حملة ضد ما سمي باليسينينية (بالروسية – يسينينشينا ). وما يزال انتحار الشاعر أو مصرعه الغامض مثار جدل بين الباحثين والمثقفين الروس .
كتب الشاعر فلاديمير ماياكوفسكي قصيدة اثر انتحار يسينين يقول فيها : ” في هذه الحياة ليس صعباً أن تموت / أن تصوغ الحياة أصعب بما لا يقاس “. ماياكوفسكي اطلق الرصاص على رأسه من المسدس المهداة اليه من مخابرات الكرملين . ويقول المنظر الأدبي الروسي البارز فيكتور شكلوفسكي : ” ان ذنب الشاعر ليس في انه اطلق الرصاص على نفسه ، بل أنه اطلقها في وقت غير مناسب “ .
مكسيم غوركي مات في ظروف غامضة بعد رفض السلطة السماح له بالسفر الى الخارج لغرض المعالجة . ويقال انه جرى تسميمه ، وان ستالين شخصياً كان ضالعا في قتله، لأن الكاتب الثوري الكبير كان مستاءاً مما يرى حوله من بؤس وظلم .
الشاعرة العظيمة مارينا تسفيتايفا ، انتحرت في 31 اغسطس 1941. ولم يسترعي هذا الأنتحار الأهتمام ، لأنه حدث في بداية الحرب الدموية بين الأتحاد السوفييتي والمانيا الهتلرية .. وكانت قصائدها ممنوعة من النشر حتى اواسط الخمسينات ، وهي تحتل اليوم مكانة بارزة في الأدب الروسي وتحظى بمقروئية عالية ، خاصة بين النخب المثقفة .شعرها مشبع بالعواطف الجياشة حتى الثمالة ، وكم رأيت من شاعرات روسيات يقرأن شعرها وهن يذرفن الدموع .
– الشاعر اوسيب مندلشتام اعتقل بسبب قصيدة كتبها تحت عنوان ” متسلق جبال في الكرملين ” وتوفي في السجن. والشاعر كلوييف مات تحت التعذيب ، اما الكاتبان المعروفانبيلنياك واسحاق بابل فقد حكم عليهما بالأعدام ونفذ فيهما الحكم سريعاً
عندما نقرأ عن هذه المصائر التراحيدية نتذكر قول فولتير : ” اذا كان لي ابن، لديه ميل إلى الأدب، فان العطف الأبوي يدفعني الى ان الوي عنقه “
كان ستالين يقرأ أهم الأعمال الأدبية المنشورة ، ويشاهد المسرحيات، التي تحظى بإقبال جماهيري . وقد شاهد مسرحية ” أيام توربين ” من تأليف الروائي البارز ميخائيل بولغاكوف عدة مرات ، حين عرض على المسرح الفني في موسكو ، ثم أصدر حكمه القاطع : ” هذه المسرحية سُخرية من النظام وبولغاكوف ليس مِنا “. مات بولغاكوف بعد تعاطي جرعة كبيرة من المورفين .
عندما قرأ كتب ستالين في عام 1931 مسرحية ( في المخزن ) للكاتب أوليغ بلاتونوف في احدى المجلات الأدبية قال : ” كاتب موهوب ولكنه وغد ” وارسل الى ادارة المجلة رسالة وصف فيها المسرحية بأنها حكاية عميل لأعدائنا ، كتبت من اجل تشويه الحركة الكولخوزية “
في عام 1934 أنشأ ستالين ( اتحاد الكتاب السوفيت ) بعد حل كل الأتحادات والجمعيات الأدبية الأخرى. وفرض الإتحاد الجديد على جميع أعضاءه الألتزام بما يسمى (الواقعية الإشتراكية ) وهو مصطلح عجيب – هل ثمة واقعية رأسمالية أو مسيحية ، لتكون هناك واقعية إشتراكية ؟ . وكانت حصيلة هذه السياسة البلهاء هي قتل (182 ) عضواً – أي ثلث اعضاء المؤتمر التأسيسي للأتحاد – في السجون والمعتقلات خلال السنوات القليلة التي أعقبت المؤتمر .
كان الروائي الكسندر فادييف ولسنوات طويلة على رأس إتحاد الكتّاب، و كان مؤمنا بالأشتراكية ،وشديد الأخلاص للحزب ولستالين شخصيا ، ويؤمن بأن كل ما يفعله ستالين هو لخدمة المستقبل الإشتراكي للبلاد . وبعد المؤتمر العشرين للحزب في عام 1956 ، حين اتضح له الحقائق المروعة عن جرائم ستالين ، لم يتحمل الضغط النفسي الشديد. وبات دائم القلق ، معذب الضمير . و يتمنى أن يموت اليوم قبل الغد ، فأطلق الرصاص على نفسه ليرتاح كما جاء في الرسالة الموجهة الى اللجنة المركزية للحزب، والتي كتبها قبيل إنتحاره .
الكتاب والشعراء الروس في فترة ” ذوبان الجليد ” :
قضية الشاعر بوريس باسترناك ، الحائز على جائزة نوبل لللآداب في عام 1958 عن روايته ” دكتور زيفاكو “ ما زالت طرية في أذهان جيلنا . حيث تعرض الى حملة تشهيرية واسعة ، أصبح بعدها انسانا محطما ، وسرعان ما اصيب بسرطان الرئة الذي لم يمهله طويلاً ، وتوفي في عام 1960 .
اما الشاعر جوزيف برودسكي فقد اعتقل بتهمة نشر اعماله في الخارج ، وتم احتجازه في مستشفى للأمراض العقلية .ثم حكم عليه بالسجن مع الأشغال الشاقة لمدة خمس سنوات . وفي 12 أيار 1972 طردته السلطات الى خارج البلاد بعد نزع الجنسية السوفيتية عنه . وهو شاعر موهوب نال جائزة نوبل لللآداب لعام 1987 ، وكان عمره آنذاك 47 عاماً أي اصغر أديب حاصل على هذه الجائزة الرفيعة .
في عام 1968 حين نشر ألكساندر سولجينيتسن روايتيه “الدائرة الأولى” و ” جناح السرطان ” في الخارج ، وصفته وسائل الإعلام السوفيتية ب( الخائن ) . وعلى اثر حصوله على جائزة نوبل للآداب في عام 1870 ، فصل من اتحاد الكتاب السوفييت، وفي عام 1974 ، نزعت عن الجنسية السوفيتية وطرد الى خارج البلاد .
قال سولجينيتسن خلال لقائه بأحد الكتاب الروس الرسميين: ” انتم تعاتبونني لأن كتاباتي تنشر في المجلات السرية ، ويجري استنساخها . والناس يقرأونها باهتمام ، وتنتقل من عائلة الى أخرى ،ولكن من منكم يستطيع ان يتفاخر ان كتبه التي تطبع على حساب الدولة بآلاف النسخ ، تقرأ من قبل الجمهور وتنتقل من عائلة الى أخرى ؟ لا أحد . هل تعرف لماذا ؟. أنا أقول لك : لأنكم تكتبون حسب الإيعازات من فوق ، ولكن الكاتب الحقيقي لا يكتب بإيعاز من أحد ، بل بإيعاز من روحه وعقله ، وضميره “.
وأخيراً أين هم الآن الكتاب السوفييت من مدرسة الواقعية الإشتراكية؟ لا أحد يتذكرهم ، ولا أحد يقرأ لهم في روسيا اليوم .
جــودت هوشيار