كان الشيخ محمد سيد حاج رحمه الله يقف في صف للقيام بإجراء مهم في إحدى المؤسسات الحكومية، فرآه أحد رجال الشرطة، فسلَّم عليه باسمه، ثم قال له: تفضل؛ حتى ننجز لك إجراءاتك.
فامتنع الشيخ وآثر الوقوف في الصف على أن يتخطى الواقفين فيه.
فقال الشرطي: ولكنك شيخنا!
فقال الشيخ: لأني شيخكم سأقف في الصف.
فلما رأى الواقفون في الصف ذلك منه؛ أقسموا على أن يقدِّموه عليهم، وقال أحدهم:
_ والله يا شيخ لو تقدمت علينا لأعدتُ النظر في المشايخ من أمثالك، ولأسأت الظن بهم!
*****
وعلى النقيض من هذا المشهد، تتكرر مشاهد بشكل يومي في المؤسسات العامة والخاصة، ووسائل المواصلات، والمخابز وغيرها… مشاهد تُوغر الصدور، وتُذْكِي نار البغضاء والشحناء، حين تجد مجموعة من الناس واقفةً في صف للحصول على خدمة ما، بينما يتسلل البعض جهاراً أو خفية ليتجاوزوا الآخرين ويتقدموا عليهم، أو يدخلوا إلى الموظفين من باب جانبي؛ ليقضوا حاجتهم في وقت وجيز؛ دون مراعاة لشعور أحد؛ لأنهم يعرفون المسؤول الفلاني أو على صلة بالموظف العلاني؛ بينما يحتج البقية دون جدوى، أو يلوذون بالصمت في مرارة المغلوب على أمره؛ لأنهم يعلمون أنهم أذا أبدوا احتجاجهم؛ فقد يتأخر حصولهم على الخدمة، أو يُحرموا من الحصول عليها، كما شاهدوا ذلك من قبل في مواقف مماثلة!
وإذا لُمتَ أحدهم على تجاوزك في الصف، لتعذّرَ بمشغولياته واستعجاله، مع أنه قد يكون في الصف من يفوقه في المشغولية والاستعجال، ولكنها الأنانية والأثرة حين تغلب على الطباع!
******
ولا يكتفي البعض بذلك، بل يحكي للآخرين بزهو وفخار تجاوزه لغيره في الصف، وحصوله على الخدمة دون عناء ولا تضييع للوقت؛ والعجيب أن الأغلبية يستمعون إليه، بل قد يثنون عليه ويشيدون به، دون أن ينكر عليه أحد هذا السلوك المنافي للدين والمصادم للحضارة!
******
وما إن تلوح الحافلة العامة في موقف المواصلات المزدحم، حتى يهرول إليها الشباب ومن خلفهم الرجل والنساء والأطفال، فيركب الأقوياء قبل الضعفاء، والشباب قبل الشيوخ، والرجال قبل النساء والأطفال، ويتزاحم الناس أمام الباب، ليجد النشالون الفرصة مواتية لسرقة الأموال والجوالات، بينما يفضل البعض الركوب من النوافذ في سلوك مشين، دون أن يفكر البعض أو ينصح غيره بتكوين صف للرجال وآخر للنساء يسمح للركوب حسب الأسبقية، مع مراعاة الحالات الخاصة والحرجة.
******
أما في الدول المتقدمة فلا أحد يهرول إذا رأى الحافلة العامة أو المترو أو القطار، بل يذهب الجميع بهدوء، ويبدأ تشكيلُ الصف بأول من وصل إليه، ثم يليه البقية في صفٍّ ينتظم بتلقائية وبساطة.
******
نحن بحاجة لتعزيز قيمة الوقوف في الصف وكلَّ القيم التي ترسِّخ احترام الآخرين وعدم التعدي على حقوقهم؛ حتى ينعم كل فرد بحقوقه، دون إيغار لصدر أحد، ولا هضم لحقوقه.
******
والوقوف في الصف والترتيب واحترام النظم واللوائح ومراعاة شعور الآخرين واحترامهم من صميم ديننا الحنيف القائم على حب الخير للغير، قبل أن يكون سمة من سمات الأمم الراقية وسلوكاً حضارياً يستدعيه العصر الحديث. ويكفي في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) رواه مسلم (45).
وعلى كل راعٍ استرعاه الله رعية أن يعامل الناس على قدم المساواة، دون محاباة أو محسوبية في الحصول على الخدمات؛ فإنه سيسأل بين يدي الله تعالى عنهم. وعلى الدعاة والمصلحين وأهل الخير أن يكونوا قدوة في غرس الأخلاق الرفيعة وتدعيم القيم السامية.
علي صالح طمبل