الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وآله وصحبه أجمعين، وبعد: قال الله سبحانه وتعالى في كتابه المبين:(وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ )الحج27؛ ذلك لأنه سبحانه وتعالى جعل الحج ركنًا أساسيًا من أركان الإسلام الخمسة. ومن هنا كان على المسلمين في جميع أنحاء العالم أن يشدوا رحالهم لأداء فريضة الحج حتى ولو لمرة واحدة في حياتهم، وذلك حسب استطاعتهم المادية.
وقد صار أداء فريضة الحج عند جميع المسلمين من الأمنيات السعيدة والمباركة يتطلع إلى تحقيقها كل مسلم ومسلمة كل عام. وفي سبيل تحقيق هذه الغاية كان المسلمون يتحملون جميع المشاق للوصول إلى الحرمين الشريفين لأداء مناسك الحج والعمرة، وما كانوا يقطعون مسافات طويلة شاسعة في القوافل أو السفن إلى الحجاز.
وانطلاقًا من هذه الرؤية فقد كان المسلمون في الهند، وذلك منذ الفتح الإسلامي لها في عصر الدولة العربية في السند والملتان، يسعون إلى تحقيق هذه الغاية النبيلة بواسطة رحلة الحج وأداء مناسك هذه الفريضة المهمة. وعلى الرغم من وجود الاتصالات التجارية والعربية مع المناطق الساحلية الغربية الهندية قبل البعثة النبوية، إلا أن الصلات الدينية والثقافية نشأت بقوة منذ قيام الدولة العربية في السند. وكانت الرحلات الثقافية والدينية شهدت تطورًا ملحوظًا في عصر الدولة العباسية، حيث أسهم علماء الهند في تطوير العلوم الإنسانية والعقلية لاسيما في عصري الخليفة هارون الرشيد وولده المأمون.
وعلى الرغم من أن مصادر سلطنة دهلي تفيد بوجود العلاقات السياسية والدبلوماسية مع الخلافة العباسية، إلا أنها لا تعطي معلومات دقيقة عن رحلات الحج في القرنين السابع والثامن الهجريين، إنما يوجد معلومات قليلة وفردية عن بعض الرحالة الهنود الذين وفدوا إلى الحرمين الشريفين عبر الطرق البرية لأداء مناسك الحج والعمرة ومنهم على سبيل المثال العالم واللغوي والمحدث الحسن بن محمد بن الحسن الصغاني المتوفى عام 650هـ/1252م، الذي تجول في البلدان العربية لتحصيل العلم والمعرفة، وزار الحرمين الشريفين مرارًا وتكرارًا آنذاك. وبعد سقوط سلطنة دهلي وقيام الإمارات الإسلامية في القرن الثامن والتاسع الهجريين بدأت العلاقات الدينية والثقافية تقوى بصورة ملحوظة، حيث بدأت هذه الإمارات الإسلامية المستقلة في الهند توطيد العلاقات الدينية والثقافية بواسطة القنوات العديدة، فكان سلاطين بهمنية في جنوب الهند، وسلاطين گجرات ومالوه في غرب الهند، وسلاطين بنگالة في شرق الهند مهتمين جدًا بشؤون الحرمين الشريفين دينيًا وثقافيًا وعلميًا، ومن ضمن اهتمامهم قيامهم بإرسال الأموال لأهالي الحرمين الشريفين مع قوافل الحجاج الهنود بصورة مستمرة، فضلًا عن إرسال الهدايا لأمراء مكة وأئمة الحرم وقضاة مكة، وإنشاء المدارس والمراكز العلمية والخانقاوات والربط مما أصبح فيما بعد من عادة الدول الإسلامية القائمة في الهند السير على هذه السنة ومنها الدولة المغولية.
لقد وجه السلاطين المغول اهتمامهم الخاص إلى الحرمين الشريفين، خصوصًا أباطرة المغول أي السلطان أكبر المتوفى 1014هـ/1605م، وابنه السلطان جهانگير المتوفى 1037هـ/1627م، وحفيده السلطان شاهجهان المتوفى 1069هـ/1658م، وابن الأخير السلطان أورنگ زيب المتوفى 1118هـ1707م، فكانوا يكنون كل إجلال وتقدير لمكة والمدينة، وكانوا يرسلون الأموال والهدايا من خلال الحجاج الهنود في عهودهم.
فلم يتراخ أباطرة المغول في إرسال العطايا السنوية والمساعدات المالية والهدايا والصدقات لأهالي الحرمين الشريفين، وذلك أولًا: بسبب الارتباط الديني وبسبب مكانة الأراضي الحجازية الدينية، وثانيًا: كسب الشهرة بين نظرائهم من الدول الإسلامية، ثالثًا: لنيل ود شرفاء مكة وتشجيعهم على توفير كافة الإمدادات لتأمين الطرق، وتوفير السكن المناسب للحجاج الهنود، ورابعًا: تنشيط التجارة الهندية في الأراضي الحجازية أكبر ملتقى تجاري على مستوى العالم آنذاك.
والمصادر الهندية المعاصرة للدولة المغولية مليئة بأخبار هذه العلاقات الدينية والثقافية بين الدولة المغولية والحرمين الشريفين، يمكننا أن نذكر هنا بعض الأمثلة لذلك بإيجاز. لما انتصر السلطان بابُر المتوفى 937هـ/1530م، مؤسس الدولة المغولية في الهند، في معركة پاني پت المشهورة في عام 932هـ/1526م، ضد السلطان إبراهيم اللودي المتوفى932هـ/1526م، أرسل مع الوفد هدايا كثيرة إلى الحرمين الشريفين لتوزيعها على الفقراء والمساكين، ولقيام الوفد المعني بأداء مناسك الحج والعمرة كعلامة شكر من جانب السلطان بابر.
وتفيد المصادر المغولية بأن السلاطين المغول ساروا على سياسة معينة لمعاقبة الثائرين والمتمردين من خلال نفيهم إلى الحرمين الشريفين لتفرغهم للعبادة، وتحصيل العلوم الإسلامية في مكة أو المدينة. فمثلًا عندما تمكن السلطان همايون المتوفى963هـ/1556م من إخوته الأمير كامران المتوفى 964هـ/1557م، والأمير محمد عسكري المتوفى965هـ/1558م، وذلك بعد دخوله معهما في صراعات سياسية وعسكرية طويلة، أذن لهما بالسفر إلى الحرمين الشريفين للحج والبقاء فيهما، حيث توفي كلاهما في مكة.
وكذلك فعل السلطان أكبر مع وزيره المتمرد بيرم خان المتوفى 968هـ/1560م، بحيث طلب من الأخير الإذن للرحلة إلى الحرمين الشريفين لأداء الحج والعمرة، ولكنه أغتيل بيرم خان وهو في طريقه إلى الحرمين الشريفين. كما عاقب السلطان نفسه كلًا من الشيخ عبد النبي المتوفى 991هـ/1583م، والشيخ عبد الله السلطان پوري المتوفى 990هـ/1582م، وذلك في النصف الثاني من القرن العاشر الهجري عن طريق نفيهما إلى الحرمين الشريفين.
ولقد أصبحت الهند لاسيما منذ القرن التاسع الهجري وصاعدًا في مقدمة البلاد التي كانت تهتم بشؤون الحج والحجاج من داخل الهند وخارجها القادمين من بلدان المناطق الآسيوية الجنوبية، وكان لموقع الهند الجغرافي عاملٌ مهمٌ لذلك، حيث إن مناطقها الغربية تقع على ساحل بحر العرب وفي شواطئ المحيط الهندي، وهو الأمر الذي جعل منها مركزًا رياديًا للحركة التجارية وللسفر منها إلى الحرمين الشريفين لأداء مناسك الحج والعمرة.
وكان الحجاج من جميع البلدان الآسيوية الجنوبية حتى من دول آسيا الوسطى يقصدون الموانئ الهندية الواقعة على السواحل الغربية في الگجرات، ومالابار، والسند كراتشي حاليًا، وتهانه أي بومباي حاليًا، وكانت هذه المناطق الساحلية تستقبل سنويًا المسافرين من داخل الهند وخارجها من البلدان الآسيوية الجنوبية، ومنها كانوا يتوجهون إلى جدة مباشرة عبر بحر العرب ثم البحر الأحمر في السفن الشراعية في عصر الدولة المغولية، وبالبواخر في عهد الاستعمار البريطاني، الذي سوف نرجع إليه بعد قليل. ومن المظاهر الإسلامية التي كان السلطان أكبر يحرص على اتباعها اهتمامه بإرسال قوافل الحجيج كل عام إلى الحرمين الشريفين على نفقة الدولة، وعرفت وظيفة جديدة “أمير الحج” في عهده، والتي استمرت في عهود خلفائه جميعًا. وكان يبعث بالأموال الطائلة والهدايا الثمينة إلى أشراف الحرمين الشريفين لتوزيعها على أهاليها، وكان يُشيِّع الحجاج عند توديع قوافلهم محرمًا كإحرام الحج، مقصرًا للشعر، ملبيًّا، حاسر الرأس، حافي القدمين.
وتفيد بعض الحوليات المغولية أنه انتوى مرة الذهاب إلى الحرمين الشريفين لأداء الحج، وكذلك كان الحال في عهود أبنائه وأحفاده. وكذلك كان لديه احترام شديد للرسول صلى الله عليه وسلم، وتفيد المصادر الهندية أنه في عام 985هـ/1577م لما عاد أمير الحج شاه أبو تراب مع قافلة الحج إلى الهند بحجر عليه أثر قدم الرسول صلى الله عليه وسلم-كما يقولون- ولما وصل قرب مدينة “أگرا” خرج السلطان أكبر مع حشد عظيم من العلماء والشيوخ، والأمراء والوزراء، ومشى معهم أربعة فراسخ على الأقدام لاستقبال الشيخ أبي تراب، إجلالًا لمقام الرسول صلى الله عليه وسلم.
د. صاحب عالم الأعظمي الندوي