من عادة السلاطين المغول إرسال قوافل الحج من الهند كل سنة إلى الحرمين الشريفين على نفقة الدولة. ويذكر المؤرخ المغولي أبو الفضل أن السلطان أكبر خصص مرة خمسمائة ألف روپية نقدًا بالإضافة إلى الأشياء الأخرى التي تحتاجها الرحلة، وأمر حاكم ميناء سورت بتجهيز سفينة خاصة لنقل الحجاج إلى الحجاز، وسلم لأمير الحج مبلغ عشرين ألف روپية من دخل الگجرات للنفقة على الحجاج. وفي ذكر حوادث عام 984هـ/1576م، ويذكر المؤرخ المغولي الآخر وهو نظام الدين الهروي:” إنه نال سيد عبد الله خان جوادًا وخلعة، وقال له السلطان إنه قد عين ابنه جاويد محمود، مير حاجي على قافلة الحج، وأعطاه ستمائة ألف روپية نقدًا وأشياء أخرى للصرف على الفقراء والمحتاجين في الحرمين الشريفين، وأمر أن يعطوا نفقات الطريق لكل شخص أراد زيارة الحرمين الشريفين، وفاز خلق كثير بهذا الإنعام.”
وطبقًا لكلام المؤرخ البدايوني في عام 986هـ/1578م، أرسل السلطان أكبر قافلة الحجاج بزعامة أمير الحج خواجه محمد يحيي، ومنحه أربعمائة ألف روپية نقدًا بالإضافة إلى الهدايا الثمينة لأشراف الحرمين الشريفين وعلمائهما. وأدى الاهتمام بالأمور الدينية إلى قيام الأسرة الملكية المغولية بزيارة الحرمين الشريفين. وفي العام 983هـ/1575م، لما أرادت النساء المغوليات أداء الحج، أشرف السلطان أكبر على رحلة الحج، سافر فيها عدد من نساء الحرم السلطاني والنبيلات برفقة الأميرة گلبدن بيگم.
وحسب المؤرخين المغول مكثت النسوة المغوليات في الحرمين الشريفين فترة، وقضين عدة سنوات في الأراضي المقدسة في العبادة والطاعة وقمن بالحج والعمرة عدة مرات، وبعد ما عدن ووصلن إلى إقليم أجمير، أرسل السلطان أكبر الأمير سلطان سليم لاستقبال الأميرات، وأتى بهن إلى العاصمة بكل وقار واحترام. وقد أسهمت الأميرات المغوليات في تنشيط رحلات الحج بواسطة تقديم المساعدات المالية للحجاج الهنود إبان تلك الفترة التاريخية. وكان البعض منهن يمتلكن سفنًا تجارية كانت تنقل البضائع التجارية بالإضافة إلى نقل الحجاج في موسم الحج. ومنهن على سبيل المثال زوجة السلطان أكبر الهندوسية وأم السلطان جهانگير “مريم زماني” التي تملك سفينة كبيرة، كان يطلق عليها “رحيمي” مخصصة لنقل الحجاج إلى الحرمين الشريفين، بجانب نقل البضائع التجارية إلى الأسواق العربية في موسم الحج بخاصة. وكانت هذه السفينة وحيدة من نوعها يطلق عليها التجار الأوروبيون “سفينة الحج العظيمة” إبان تلك الفترة. وفي إحدى المرات، وذلك في عام 1023هـ/1614م، وقعت هذه السفينة رهينة القرصنة البرتغالية، والتي كان من نتائجها نشوب حرب بين القوات المغولية والبرتغالية لفترة طويلة. وقد حافظت على هذه الثقافة الدينية والتجارية الأميرة جهان آرا بيگم بنت السلطان شاهجهان، فإلى جانب نشاطاتها السياسية أسهمت في التجارة العالمية. ومن ضمن الممتلكات الخاصة بها موانئ سورت العالمية التي كانت تنطلق منها السفن المحملة بالبضائع الهندية إلى الدول العربية وجنوب آسيا.
وقد خصصت الأميرة سفنًا خاصة لحمل الحجاج لأداء الحج، وزيارة الحرمين الشريفين في موسم الحج كل عام على حسابها وعلى متن سفينتها، وكان يطلق عليها “سفينة صاحبية”. وكذلك كان السلطان أورنگ زيب قد أمر بتصنيع الأسطول الكبير المسمى “گنج سواي” لإرسال الحجيج الهنود كل عام إلى ميناء جدة بإشراف الإدارة المغولية الخاصة حتى يمكن وصولهم إلى الحرمين الشريفين آمنين متمتعين.
بعد سقوط الدولة المغولية في النصف الثاني من القرن الثالث عشر الهجري تغيرت الأوضاع السياسية والإدارية، لكن كانت الرحلات الهندية إلى الحرمين الشريفين على قدم وساق ولكنها كانت تتم بواسطة الإدارة الإنجليزية، أو الإدارات الخاصة بالإمارات الإسلامية التابعة للدولة البريطانية. وهنالك مئات من الوثائق التي تحمل في طياتها معلومات تفصيلية عن إسهام الإمارات الإسلامية في إنشاء المنازل ودور الضيافة والربط في الحرمين الشريفين آنذاك، والتي كانت تقدم جميع الخدمات لقوافل الحجاج في أثناء موسم الحج، وكذلك تجمع هذه الوثائق بين دفتيها عدد الحجاج المسافرين إلى الحرمين الشريفين من الولايات الهندية العديدة، والعلاقات بين الحجاج والسلطات البريطانية، والخدمات التي كانت الإدارة البريطانية تقدم للحجاج سواء في الهند قبل سفرهم أو في جدة بعد وصولهم.
ومنذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي أصبحت مدينة بومباي هي نقطة الانطلاق حيث كان جميع الحجاج يجمعون فيها من سائر الولايات الهندية، ويمكثون في بعض العمارات المخصصة لهم حتى يحين ميعاد ركوبهم بالباخرة أو الطائرة فيما بعد.
وفي تلك الفترة القصيرة كانت تتخذ ترتيبات ضرورية للتفتيش الصحي وتحويل العملة الأجنبية، وإخراج الجوازات للسفر إلخ. ويوجد في الوثائق البريطانية اسم “لجنة الحج للميناء” التي كانت تتولى شؤون الحج الخاصة بترتيبات السفر وتسهيلات هذه الرحلات من ميناء بومباي إلى ميناء جدة والعودة منها إلى الوطن. ومنذ بداية القرن العشرين أنشئت بعض الهيئات الهندية للاعتناء بشؤون الحج والحجاج الهنود، ومنها هيئة “لجنة الحج المركزية” المتصلة بلجان الحج المحلية الواقعة في جميع الولايات الهندية، علمًا أن لجنة الحج المركزية صارت فيما بعد هيئة استشارية لرئيس وزراء الهند ووزير الخارجية للحكومة الهندية. وكانت هناك شركات عديدة تتولى مهمة نقل الحجاج الهنود ومن أشهرها في النصف الأول من القرن العشرين “شركة مغل لائن” التي تقوم بنقل الحجاج الهنود إلى الحرمين الشريفين على متن بواخرها الثلاث “محمدي”، و”مظفري”، و”سعودي”.
وقد سبق وكانت شركة “توماس كوك” البريطانية تقوم بهذه المهمة لاسيما في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي. وبعد التطور في مجال التكنولوجيا ووجود خدمة الخطوط الجوية، تستأجر لجنة الحج لميناء بومباي الخطوط الجوية الهندية وشركة الخطوط السعودية الجوية لنقل الحجاج إلى الحرمين الشريفين. وفي رعاية كل من لجنة الحج، وجماعة خدام النبي صلى الله عليه وسلم، كان العلماء يقومون بتوعية الحجاج من خلال إلقاء الخطب، وشرح القواعد الخاصة بمناسك الحج والعمرة، والمعالم الدينية الموجودة في الحرمين الشريفين، وكذلك هذه اللجان وتلك الجماعات الدينية كانت تقوم بنشر الرسائل والنشرات والكتيبات بمختلف اللغات المحلية والعربية على الحجاج. وهذا النشاط الديني الواسع كان ولا يزال يسهم في التوعية الدينية الخاصة بمناسك الحج والعمرة لدى الحجاج القاصدين إلى الحرمين الشريفين في الوقت الحالي. ومنذ عهد الاستعمار البريطاني، وذلك طبقًا للوثائق البريطانية، من الإجراءات التي كانت الحكومة الهندية تتخذها لتيسير مهمة حجاجها، فتح مكتب هندي دائم تابع للقنصلية الهندية في جدة، والذي كان يشرف على شؤون الحجاج طوال العام، وقيام مستوصف طبي خاص في مكة وجدة والمدينة إلخ، يعمل أيضًا طوال موسم الحج، ومنها إرسال البعثة الطبية المتخصصة من الهند مع الوسائل والمعدات الطبية اللازمة؛ لتكون في حوزة الحجاج الهنود، وفي أثناء أيام الحج كانت القنصلية الهندية تنشئ مستوصفات طبية موسمية ومتنقلة في كل من جدة والمدينة ومنى وعرفات ويتبعها عدد من عربات المرضى وسيارات الإسعاف والنقالات، ويشرف عليها أطباء متخصصون من الهند.
وتجدر الإشارة إلى نقطة مهمة ألا وهي أن جميع التسهيلات التي كانت البعثة الهندية الطبية والمستوصفات وقسم الحج وغيرها تقدمها كانت تعم جميع الحجاج بدون أي استثناء. وفي الوقت الحالي تهتم كل من الحكومة الهندية والمملكة العربية السعودية بتوفير جميع التسهيلات والخدمات المعنية للحجاج القادمين من الهند. ومنذ بداية القرن الحادي عشر الميلادي تم تخصيص مطارات إضافية في عواصم معظم الولايات الهندية الكبرى في شمال الهند وجنوبها والتي يستخدمها الحجاج للسفر إلى المملكة كل عام.
ولا يخفي على أحد ما تقوم الحكومة السعودية بإنفاق مليارات من الدولار من أجل تقديم أحسن خدمة لضيوف الرحمن. وهذه الخدمات المميزة طبعًا تحيط بجميع الحجاج القادمين من جميع أنحاء العالم. ولولا وجود المهارة الفائقة والمقدرة الإدارية الدقيقة والشاملة، لكان من المستحيل أن يتم ضبط هذه الجموع وتراعي شؤونهم في موسم الحج.
ومن أهم مظاهر الحج عند مسلمي الهند وذلك منذ العصور الإسلامية، قيام عدد كبير من الأهل والأصدقاء بالتجمع والاشتراك عند ذهاب الحجاج وعودتهم في الموانئ أو المطارات، أو محطات المدن والقرى، لاستقبالهم بالأناشيد الدينية، وتقديم باقات الزهور، وفي بعض المحطات يقف الحجاج تلبية لطلب المستقبلين للمشاركة في دعاء جماعي، ثم يلقون الخطب والمواعظ لفترة وجيزة، وبعد ذلك يصحبونهم في موكب شعبي، وفي الأحياء والقرى والأرياف التي يقيم فيها الحجاج العائدون يقام سرادق فخم بمناسبة عودتهم من سفرهم المبارك إلى أهليهم وبلادهم. والباحث يذكر جيدًا الاحتفال الذي أقيم بعد عودة جده وجدته من الحج في التسعينيات من القرن الماضي، حيث أقيم سرادق واجتمع فيه الجيران والأصدقاء والأقرباء، ووضعت مأدبة ووليمة كبيرة. ووضع بعض ماء زمزم في برميل كبير لكي يتم خلطه بغيره من الماء العادي معتبرين إياه بركة من ماء زمزم، ثم كانت تقدم للضيوف الحاضرين، بالإضافة إلى توزيع التمور عليهم. ويحتفظ أهل الحجاج في الهند بصورة عامة بماء زمزم للتداوي به، واستعماله في بعض الأمور لاسيما يتم خلطه بالماء لغسل الأموات ورشها في القبر للبركة.
د. صاحب عالم الأعظمي الندوي